Site icon IMLebanon

من قضاء جزين إلى سهل الميدنة والجرمق: صار الليطاني موحلاً

 يبدو نهر الليطاني في مساره الجنوبي وكأنه ضاق ذرعاً بما ارتكب بحقه في الحوض الأعلى البقاعي، هناك حيث شق مجراه في قلب السهل الواسع فاتحاً ضفتيه على الناحيتين للبلدات والقرى وأراضي المزارعين ينهلون منه على مدى سنوات طويلة مياهاً للشفة والري، ويعيشون على ضفافه مع مقومات الحياة النهرية المتكاملة من سباحة وصيد واستحمام واغتسال وحتى تجهيز عرائس وحنتهن. وعندما لم يقابله المسؤولون بمثل عطائه، واستهتر به الناس، أغرق بالتلوث على انواعه ليتحول مكباً للنفايات التي هددته بالموت مع بحيرة القرعون، قرر ليطاني الجنوب عدم تكرار تجربته البقاعية، فانزوى وابتعد عن البشر قدر الإمكان.

وعليه، لم يقطع قرى البحيرة الرابضة على الكتف الجنوبي في أوديتها فقط، بل أكمل طريقه نحو قضاء جزين غائراً في أودية مزرعة جرين-الدمشقية والعيشية وجبل الريحان وصولاً إلى منطقة السهل حيث يلاقي كفرمان والجرمق وفوقهما سهل الميدنة لناحية الغرب، عابراً على الأطراف ومتجنباً الأماكن السكنية.

هناك أيضاً اختار أن يبقى بعيداً عن القرى ومنازلها وكأنه يهرب من المبيدات الزراعية التي تستعمل في سهلي الميدنة والجرمق والأراضي المزروعة في كفرمان، فيعبر نحو منطقة الخردلي على طرف السهل الأشهر في المنطقة بعد سهل مرجعيون-الخيام.

ساعد الليطاني في عزلته ما تعرضت له المنطقة من اعتداءات إسرائيلية عرقلت نموها إثر سنوات طويلة من الاحتلال. لم تنشأ صناعات ملموسة ولم تتمدد القرى نحو مجراه، مع الأخذ بعين الاعتبار درجات انحدار الأودية التي يعبرها، والتي يتعذر البناء فيها عامة بالإضافة إلى عدم وجود طرقات سهلة تصل إليها.

وبسبب الانحدار الجغرافي نفسه تخلو «بطون» الأودية في قضاء جزين وتعرجاتها، بعد القرى الممتدة من القرعون إلى قليا، من الأراضي الزراعية الواسعة والمنبسطة لناحية الليطاني التي تغري أصحابها باستثمار مساحات زراعية معقولة.

لكن الجغرافيا التي نجت بليطاني الجنوب في أودية قرى جزين تحولت، وبفعل تغاضي المسؤولين عن قيامهم بمهامهم، إلى لعنة جنوبية عليه. هناك، ومن أودية الدمشقية والعيشية وجبل الريحان وفي قلبه تلة خازم، وصولاً إلى حوض بلاط ومرجعيون لناحية مقلب الليطاني (وليس حوض مرجعيون والخيام) تنتشر نحو 15 مرملةً ومقلعًا ومغسلَ رمل تحول الليطاني إلى مجرور من الوحول والرمول. منشآت لا يتجاوز عدد الشرعي والمرخص منها أصابع اليد الواحدة، فيما يحتال بعضها للعمل تحت عناوين استصلاح الأراضي ونقل «ستوك، أو رمول اصطناعية»، وما شابه.

وفي الوادي الذي من المفترض أنه يحمي الليطاني، تبدأ مأساة النهر فعلياً ومعه مأساة الجنوبيين الذين كان النهر يعتبر محطة أساسية في حياتهم الصيفية خصوصاً.

وتكفي جولة صغيرة على مجرى النهر في الوادي، وتحديداً في المناطق غير المصنفة أمنية والمسموح ولوجها، لرؤية مجاري السيل الآتية من المرامل ومغاسل الرمول لتصب في الليطاني مباشرة.

عدا مجاري السيل، وبالرغم مما قيل عن تعميم إداري قضى بتوقيف كل المرامل والمقالع ومعها مغاسل الرمول عن العمل، بعد استفحال أزمة تلوث النهر، تجد الشاحنات والجرافات في تلة خازم وجبل الريحان تأكل تلال الصنوبر في ظل كلام كثير عن حماتها من «رسميين ومتنفذين». بعض المرامل ومغاسل الرمول تعمل في وضح النهار «وبوقاحة» كما يقول سكان المنطقة، وبعضهم يغسل الرمول ليلاً بعيداً عن عين المراقب. حتى الدخول إلى منطقة المرامل والمغاسل ليس متاحاً لمن لا يثق فيه أصحابها تحت حجة «الأملاك الخاصة». هنا يعلو مفهوم الملك الخاص على قيمة الملك العام الذي هو النهر ويلوثه بحجة استثمار الملك الخاص وقدسيته.

بعض المرامل التي تقع على ضفة الليطاني مباشرة تبدو نهاراً متوقفة عن العمل بفعل القرار الإداري، فيما يؤكد سكان المنطقة والعارفون فيها أن البعض منها يعمل ليلاً وبتستر رسمي وإداري.

يمكن لانتظار مجرى الليطاني في النقطة التي ينفذ فيها بعد عبوره أودية قرى قضاء جزين أن يوضح حجم الضرر الكبير الذي يضيفه القضاء على النهر. إذ يمكن لمن يجول في الوادي أن يتركه أخضر او ازرق اللون عند قليا، برغم تلوثه بما يضخ إليه من سد القرعون عبر نفق مركبا حيث تمتزج المياه الملوثة بمياه نحو سبعة ينابيع فتضيع الروائح الكريهة ليكتسب النهر وناسه بعض حياة. ولكن ومع خروجه من أودية قضاء جزين يصبح الليطاني بني اللون موحلاً وقد أكلت الرمول مجراه وسدته الصخور وغيرت لون حصاه، وأخفت أسماكه.

هناك، وتحديداً في أسفل الحوض لناحية بلاط ومرجعيون، قد تجد عائلة أو عائلتين اصطحبتا أطفالهما وقصدتا «السيران» على النهر ولكن على طريقة «مرغم أخاك لا بطل» كما يقول أبو علي إبراهيم، من سكان الجرمق: «الأولاد حابين يسبحو وما عنا خيار آخر».

يقول إبراهيم سلامة، أحد المالكين في سهل الميدنة، أن أراضي السهل لا تروى من مياه النهر: «نحمد الله أنه لدينا نبع سهل الميدنة الذي ينبع من أسفل الجبل الرفيع وقوته تصل إلى نحو عشرين إنشاً». لا يجف نبع الجبل الرفيع حتى في عز الصيف: «هناك تقنين لمياه الشفة وبعض العائلات تتزود بالصهاريج منه، هناك نحو عشرين صهــــريجاً تنقل المياه إلى المنازل من النبع»، كما يقول.

وتبلغ مساحة سهل الميدنة نحو ألف دونم وتنتج أفضل أنواع الخضار التي يرغب فيها الجنوبيون وأهل بيروت بسبب نظافتها مقارنة بكل ما يقال عن تلوث الخضار المروية من الليطاني وغيره من مصادر التلوث.

حظوة خضار الميدنة تنسحب على مزروعات الجرمق الذي ينجو بدوره من الليطاني حيث يعبر من طرفه نحو خراج كفرمان ومنطقة الخردلي. هناك نحو ألف دونم أيضاً تروى من نبع الجرمق، وإن كان أقل غزارة من نبع الجيل الرفيع في الميدنة.

يتقاسم سهل الجرمق مالكون من أصحاب الرساميل والنفوذ، كآل جنبلاط وصحناوي وغيرهما، ويتوزع السهل على ملكيات لا تقل عن 300 دونم وما فوق. أما أولئك الذين كانوا يشتغلون كعمال في السهل فقد تم استحداث قرية لهم على إحدى تلالها سميت بالرشيدية. … ويكمل الليطاني نحو منطـــقة الخردلي التي أصابها تلوثه في الصـميم، وضرب استثمارات الجنوبيين الذين كانوا يعيشون من استراحاتها.