Site icon IMLebanon

السيادة الغذائية المفقودة: لا حلول من دون الليطاني

 

 

لا يمكن البحث عن أيّ استراتيجية للأمن الغذائي، فيما مياه الليطاني وبحيرة القرعون ملوّثة بالصرف الصحي، وفي وقت باتت فيه مشاريع ري الليطاني مهدّدة بالتوقف. الدولة، كعادتها، تفضّل دعم الاستيراد على الحلول المستدامة. بينما يقدّم الاهتمام الصيني بالليطاني فرصةً مهمّة لمعالجة مياه الصرف الصحّي في البقاع

 

يَحدثُ أن نهراً كالليطاني، يخترق لبنان من بقاعه إلى جنوبه، مُحَيّد ومهمّش في حرب التجويع التي تُشنّ على لبنان. هذا الإقصاء لشريان الحياة الذي يشكّل مع حوضه 20% من مساحة لبنان، ليس وليد اللّحظة. بل هو نتاج سياسات أمعنت فيه تلوّثاً وإهمالاً وتعدّياً، على مياهه ومساحات أحواضه الزراعية، بفعل الجهل والجشع والدور السّلبي للدولة. حتى إن الليطاني ربّما، لم يعانِ من الاحتلال الإسرائيلي وأطماعه فيه، كما عانى من ظلم ذوي القربى وإدارات رسمية وبلديات.

 

ولئن كانت أحواض الأنهر وضفاف البحيرات، في كل بقع العالم، بدايات المدنية وشروطها وأسباب الحروب الأولى، فإنها اليوم تزداد أهميّة في صراع الموارد. وستتفوّق المياه العذبة في العقود المقبلة، على أي قيمة تقدّمها الأرض للإنسان، من النفط إلى المعادن والغذاء.

المسؤولون اللبنانيون ينهمكون في الحديث عن الأمن الغذائي، فيما يهملون التحرّك الفوري لإنقاذ الليطاني من سواقي المياه الآسنة المنسلّة اليه من البيوت والمزارع والمعامل. كما يهملون، في الوقت نفسه، حماية أحواضه الزراعية بتعديل المخططات التوجيهية ومنع تبديل تصنيف الأراضي. وإذ كانت عادة السلطات المعاقبة في توصيف المشكلة و«النقّ» عليها، ثم الجلوس في مقاعد الجمهور المتفرّج وتغطية التعديات تمرّ في ما مضى من دون مخاطر وجودية مباشرة، إلا أنها اليوم انتظار للموت، واستسلام مبكر لهزيمة محتومة.

في المرحلة الأخيرة، حقّقت المصلحة الوطنية لمياه الليطاني تقدّماً ملحوظاً في استعادة سيادة النهر ومحاولة تخفيف أسباب تلوّث مياهه ومياه بحيرة القرعون. لكنّ أزمة الليطاني وانعكاسها على الأمن الغذائي والمائي للبنانيين، الآن وفي المستقبل، أكبر من أن تحلّها المصلحة بمفردها. وما لم تكن خطّة «شفاء» الليطاني استراتيجية وطنية تأخذها السلطة أولوية وطنية في حرب الدفاع عن مصالح المجتمع، ويأخذها المجتمع كحتميّة للتقّدم والاستمرار، فإن بديهيات الأمن الغذائي والمائي منعدمة، والخطر على اللبنانيين داهم ووشيك.

 

مشاريع الرّي

تستثمر المصلحة الوطنية لنهر الليطاني حالياً ثلاث منظومات ري (مشروع ري القاسمية ومشروع ري صيدا ـ- جزّين ومشروع ري البقاع الجنوبي – الغربي) على نطاق واسع، بواسطة أقنية مكشوفة وشبكات مضغوطة.

مشروع ري القاسمية مثلاً، يؤمّن المياه لحوالى 4000 هكتار وتستفيد منه 36 بلدة تقع ضمن مساحة إجمالية تبلغ 212 كيلومتراً مربعاً. هذه المياه مصدرها نبع غلة ونبع علمان وينابيع عين أبو عبد الله الموجودة على مجرى نهر الليطاني في الحوضين الأوسط والأدنى، إضافة الى مياه نبع الصفصاف في برك رأس العين. الكارثة أن القناة كانت هدفاً لحوالى 4 ملايين متر مكعّب من مياه الصرف الصّحي، قبل مسار طويل من إزالة التعديات استمر لسنتين. وهو اليوم، لا يستفيد من مياه بحيرة القرعون للحفاظ على نوعية مياه الري بسبب ارتفاع نسبة التلوث في مياهها.

مشروع ري صيدا – جزّين، المغذّى من مياه نهر الليطاني عبر حوض أنان، يضم 26 قرية في مناطق شرق صيدا وجزين ويروي حوالى 430 هكتاراً من المساحات المروية، وفق نظام الري بواسطة شبكات المياه المضغوطة. إلّا أن هذا المشروع يشارف على الانهيار. فهو وُضع قيد الاستثمار منذ أكثر من 40 عاماً، ويتضمن شبكات رئيسية وثانوية (بطول إجمالي قدره 45 كلم)، مطمورة بوضع فني سيّئ ومتضرّرة بسبب القدم. أمّا الأخطر، بحسب دراسات مصلحة الليطاني، فهو السميّة التي قد تحملها مادة «الأترنيت» الذي صُنّعت منه الشبكات، وهي مادة سامّة تتسبّب بحدوث أنواع عديدة من السرطانات، وباتت اليوم محظورة دولياً، إضافة الى أن قطع غيار هذه الشبكات لم تعد متوفّرة! كل هذا يجعل من توقف هذا المشروع عن العمل أمراً وشيكاً، ما سيؤدي إلى حرمان نحو 400 هكتار من مياه الري وخسارة فرص عمل لأكثر من 2000 عائلة لبنانية تعيش من هذا المورد، وتُفْقِد الأمن الغذائي قدراً وافياً من محاصيل الخُضر والبقول.

ويلحظ مخطط ري البقاع الجنوبي ــ الغربي الري الحديث لكامل البقاع الجنوبي الممتد من رياق إلى بحيرة القرعون. وجرى توزيع مصادر المياه لري هذه الرقعة بحصّة 30 مليون م3 من بحيرة القرعون، 33 مليون متر3 من ينابيع عنجر وشمسين، و75 مليون م3 من الأحواض الجوفية. وتضمّ المرحلة الأولى ما يسمّى القناة 900 (تروي حوالى 2000 هكتار)، إلّا أن المشروع توقّف بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1978. وفي عام 1996، أنجزت المصلحة (بالتعاون مع مجلس الإنماء والإعمار والبنك الدولي) دراسات إعادة تجهيز واستكمال مشروع الـ2000 هكتار. وبين 1997 و2000 تم تلزيم المشروع، وأُعيد استكمال القناة 900 حتى جب جنين، وبناء محطة جب جنين وتجهيز هذا القطاع بخزان وشبكات مياه مضغوطة، وتجهيز 6 آبار جوفية في منطقة كامد اللوز (بقدرة ضخ سنوية تبلغ 14 مليون م3)، تحضيراً للمرحلة الثانية، أي تجهيز 6700 هكتار المتبقية من مشروع ري الجهة اليسرى لنهر الليطاني حتى بر الياس.

وبلغت المساحة المروية من القناة 900 نحو 315 هكتاراً عام 2016، إلّا أن المشروع متوقف حالياً، أيضاً بسبب تلوث بحيرة القرعون، حارماً سبع بلدات من مياه الري.

أما المشاريع قيد التنفيذ، فأبرزها مشروع ري لبنان الجنوبي (القناة 800)، حيث حدّد التمويل بموجب اتفاقيتي قرض بين لبنان والصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، واتفاقيتي قرضين إضافيين لتنفيذ أشغال الناقل الرئيسي للمياه من القرعون إلى جنوب لبنان مع 20 خزاناً ومعمل لتوليد الطاقة الكهرومائية و4 محطات ضخ.

 

47 مليون متر مكعب من الصرف الصحّي تتدفّق من 69 بلدة في البقاع الشمالي والأوسط والغربي إلى الليطاني والقرعون

 

 

مدير المصلحة سامي علويّة أعرب عن خشيته من أن لا تنتهي المرحلة الأولى من المشروع عام 2021، حيث من المفترض أن يروي حوالى 13.300 هكتار، لتستفيد منه 102 بلدة. وفيما يؤكّد علويّة على «الدور الأساسي للصندوقين العربي والكويتي في تأمين تمويل المرحلة الثانية من المشروع كما في المرحلة الأولى»، يأتي الكلام عن الاهتمام الصيني بالليطاني في وقت مناسب. ففي حال عدم تأمين التمويل للمرحلة الثانية من الصندوق العربي أو الكويتي، ماذا الذي يمنع الاستفادة من التمويل الصيني؟ خصوصاً أن لدى المصلحة تصوراً واقتراحاً يسهلان تنفيذ المرحلة الثانية، من خلال الاستغناء عن كلفة استملاكات الشبكات الفرعية والطرقات الزراعية، والاستعاضة عنها بـ«تشريع ارتفاق قانوني للمنفعة العمومية على الأراضي الزراعية الواقعة في نطاق المشروع بموجب المادة 63 من قانون الملكية العقارية على غرار خطوط وشبكات الاتصالات». ما يعني خفض الكلفة على الأقل بقيمة 100 مليون دولار، بما يسهل تنفيذ المشروع ويضمن وجهة الاستعمال الزراعية للمساحات المروية المستفيدة منه. وكذلك الأمر، فإن الحاجة إلى التمويل تلبّي العجز الحاصل في تمويل «مشروع ري البقاع على المنسوب 900» لتستفيد منه 53 بلدة.

 

«نهر» من الصرف الصحّي!

يبدو الحديث عن تلوّث الليطاني وبحيرة القرعون مكرّراً، لكنّ أياً من خطط إزالة أسباب التلوّث لم تنفّذ بعد على المستوى المركزي أو اللامركزي. إذ أن مياه الصرف الصحّي تتدفّق من 69 بلدة في البقاع الشمالي والأوسط والغربي إلى نهر الليطاني وبحيرة القرعون، بمعدل 47 مليون متر3!

وتتعثر الدولة في تطبيق القانون رقم 63 تاريخ 27/10/2016 المتضمن تخصيص اعتمادات لتنفيذ مشاريع الاستملاك العائدة لها في منطقة حوض نهر الليطاني من النبع إلى المصب بقيمة 1100 مليار ليرة، وفي تنفيذ مشروع «الحد من التلوث في بحيرة القرعون» بناءً على اتفاقية قرض يقيمة 55 مليون دولار لتمويل المشروع وُقعت في 2 أيلول 2016 مع البنك الدولي للإنشاء والتعمير. وبالتالي، فإن كلّ المشاريع المتعلقة برفع التلوث عن نهر الليطاني، لا تسير وفقاً لقوانين البرامج واتفاقيات القروض وضمن المهل المحددة والأصول القانونية ولا يستفاد منها في الرّي. وبدلاً من ذلك تكلّف الدولة نفسها عناء تسديد الأمن الغذائي بتمويل الاستيراد! ويعلّق علوية بالقول: «لا يمكننا البحث عن الأمن الغذائي في الصرف الصحي».

ولم تُظهر الدراسات الجديدة أي تغيير أو تحسّن في نوعية مياه بحيرة القرعون ونهر الليطاني، أو أي تقدم في تنفيذ محطات التكرير، خلافاً لما ورد في كتاب مجلس الإنماء والإعمار (رقم 4315/1 تاريخ 27/9/2018)، المتعلق بإيداع المصلحة ملخصاً عن سير أعمال المشاريع المكلف المجلس بتنفيذها ضمن نطاق منطقة حوض الليطاني من المنبع إلى المصب، ولا في كتاب مجلس الإنماء والإعمار (رقم 3627/1 تاريخ 6/8/2019)، المتعلق بإيداع المصلحة معلومات تتعلق بمحطتَي الصرف الصحي في المرج وتمنين.

ويترافق اعتماد الحلول المركزية لمنظومات معالجة الصرف الصحي مع عيوب في الدراسات والتصاميم وسوء التنفيذ وعدم استدامة تشغيلها بفعل الحاجة إلى مصادر هائلة من الطاقة وعدم توفر القدرات الفنية والمالية لتشغيلها من قبل مؤسسة مياه البقاع، إضافة إلى استمرار ربط شبكات مياه الأمطار وتحويل الصرف الصناعي إلى الشبكات المؤدية إلى محطات التكرير! وينجم عن كل ذلك فشل في معالجة المياه وعدم ثبوت صلاحية المياه المعالجة للاختلاط بالوسط المائي وبالتالي عدم صلاحيتها للري!

وفوق ذلك، فإن المخطط التوجيهي لأقضية زحلة والبقاع الغربي وراشيا يعتمد استخدام المياه الخارجة من محطات التكرير لغايات الري، الأمر الذي يعود بأخطار مضاعفة على المحاصيل الزراعية وصحّة المواطنين والحياة الطبيعية!

من هنا، يبقى البحث عن أي حلول لأزمة الأمن الغذائي والمائي المستفحلة، وعن تخفيف الأضرار البيئية والإيكولوجية، سراباً وذرّاً للرّماد في العيون، ما لم تضع الدولة بكل قواها كل إمكاناتها لمعالجة أزمة الصرف الصّحي، والاستفادة من أي فرصة سانحة للحصول على تمويل من أيّ جهة أتت، ولا سيّما من الصين.