IMLebanon

أدب الخراب الأصيل

تنضم رواية كنعان مكية «الفتنة» الصادرة أخيراً، الى ما يمكن ان يُطلق عليه اسم «أدب الخراب الأصيل».

لائحة طويلة من الأعمال الأدبية، الروائية خصوصاً، تناول كتّابها على اختلاف مدارسهم الفنية وانتماءاتهم السياسية، ظواهر العطب العميق في مجتمعاتنا ونزوعها الى العنف والقتل والتدمير الذاتي في معزل عن أثر الخارج وتحريضه ودوره في ترسيخ الشقاق ثم الاقتتال الأهليين واستغلالهما وتوظيفهما في جداول أعماله السياسية.

في «الفتنة» يحضر الاحتلال الأميركي للعراق كمكمل للنزاعات القديمة بين العراقيين السنّة والشيعة وبين الشيعة أنفسهم، كما يأتي التدخل الإيراني ليزيد عمق الصراعات الشيعية – الشيعية ويستغلها لأهدافه. يصح الكلام ذاته على علاقات الهزارة مع الباشتون، على سبيل المثال في رواية الأفغاني خالد الحسيني الأولى «عدّاء الطائرة الورقية»، او عمل البريطاني – الهندي سلمان رشدي «العار» حيث يرسم الخريطة التي مهدت الطريق الى الانقلاب العسكري بقيادة ضياء الحق في باكستان.

في الأعمال العربية لا تندر الأمثلة كذلك. نجدها على سبيل المثال في روايات الياس خوري مثل «الوجوه البيضاء» و «الجبل الصغير» و «غاندي الصغير» و «يالو» (او الاعمال التي تناولت الواقع اللبناني عموماً)، حيث تظهر خطوط التصدع الاجتماعية العميقة التي لا تنفك تنقلب الى حروب يتداخل فيها العاملان الشخصي والعام. او ان يحمل المشارك في الحرب عنفه ليفجره على شكل جريمة «عادية» على نحو ما فعل «يالو». اعمال قريبة الى هذا الوصف نجدها عند خالد خليفة في «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» وفواز حداد في «السوريون الأعداء» وغيرها. يصح ان تضاف هنا لائحة فرعية تضم أدب السجون والمنافي.

مفهوم أن لهذا النوع من المعالجة الاجتماعية – السياسية للواقع العربي من خلال الأدب، أسلافاً مثل اعمال عبدالرحمن منيف وجبرا ابراهيم جبرا، بيد أن المهم هو أصالة الخراب في المجتمعات في المشرق العربي وتلك القريبة منها والتي لم تؤدّ أعمال الغزو والاحتلال إلا الى تظهيرها وتضخيمها وإخراجها من جحورها الأزلية. ومفهوم أيضاً ان الأعمال الأدبية ليست دراسات توثيقية اجتماعية واقتصادية وفيها مجال واسع للتخيّل ولاستخدام الادوات الفنية المختلفة ضمن سياق الرواية. لكن ذلك لا يلغي النصيب، الكبير في بعض الأحيان، من تصوير الواقع وعكسه.

تشريح المآسي الاجتماعية وعلل الجماعات والأفراد صنعة قديمة في الأدب الذي لا تتوقف مهمته او رسالته ههنا. من «جرمينال» أميل زولا و «بؤساء» فيكتور هوغو مروراً بديستويفسكي في «الجريمة والعقاب» و «مذلون مهانون» وليس انتهاء بأعمال شتاينبك وفولكنر الخ… لكن ما يتعين الانتباه اليه ويمثل فارقاً اساسياً بين الأعمال الأدبية العربية ونظيرتها الغربية، يشبه ما تعيشه المجتمعات والشعوب العربية منذ عقود وخلاصته الطلاق البائن بين تشخيص المشكلة وبين القدرة على علاجها.

لا يعنينا هنا التصنيف السياسي لكاتب «الفتنة» وليست مهمة تلك الزوبعة التي يطلقها نقاده على مواقفه عشية الاحتلال الأميركي للعراق. ليس لأن مكية اعتذر عنها في الصفحات الأخيرة من الكتاب المذكور، لكن لأن ما تسعى هذه السطور اليه هو ما سماه رونالد بارت «الدرجة صفر للكتابة» حيث لا مكان للكاتب في نصه اذ يستقل هذا عن صاحبه وينشئ حياته الخاصة، على رغم ما على هذه المقولة من مآخذ.

بكلمات ثانية، يبدو أن الأعمال الأدبية العربية استطاعت على مدى عقود رؤية الأمراض والآفات السياسية والاجتماعية والثقافية، فيما تقيم السلطات القادرة على الاستفادة من الرؤى هذه في قارات أخرى.