ــــ ١ ــــ
لم يعد اليقين صالحاً للاستخدام. (ولم يكن)…
الجديد أن: الطغاة الذين تعوّدوا على امتلاك اليقين في هذه البقعة من العالم لم يعد لديهم ما يبيعونه سوى المأساة أو انتظارها.
وهذا ما يجعل «سوريا» مجرد مختبر، لا لكي تتكرّر التجربة في ما بعد على بلاد أخرى، ولكن لتتم بالكامل على أرضها.
لا أحد يمكنه وصف «التجربة» بالحرب/ أو بأشياء أخرى، والشطار الذين يحاولون الوصف يستخدمون كل خيالهم القديم فيصفون ما يدبّر بأنه «سايكس بيكو» على الهواء مباشرة، ويقاومها البعض بخطاب حسرة والبعض باستدعاء الشعارات من مراقدها القريبة مصطنعاً حرباً ضد «التقسيم الجديد» (الذي لا يعرف أحد تفاصيله ولا خريطته… لكنه من وحي خيالات المنتظرين دوماً البرابرة).
الحرب ضد سايكس بيكو «الجديدة» تتم باستلهام وشحذ الدفاع عن حدود «سايكس بيكو» القديمة. أي أنه تماهٍ وهيمان فيما تنافست الخطابات الشعاراتية في أنه «مؤامرة» على أساس أن «المؤامرة» الجديدة تهدد «الاستقرار» الذي أصبح سكان هذه البقعة في ألفة معه.
هكذا يدمّر «اليقين» ذاته. بما كان يمثله من رؤية وأداة للحكم والسيطرة.
هل يمكن أن تعرف أين تقف الدول التي أقامها اليقين (الوطني/ القومي/ الطائفي/ المذهبي) في بؤر الحروب من اليمن إلى العراق، ومن سيناء إلى حمص وحلب؟
هل هناك تفسير يقيني في خريطة التحالفات: مصر التي تحالفت مع السعودية تؤيّد الهجمة الروسية/ وقطر التي تضرب في اليمن مع مصالح السعودية تتلقط مصالحها بين تفاهمات القوى العظمى.
وهل لدول المنطقة بكاملها دور في «عملية» إعادة توزيع القوى الدائرة في المختبر السوري؟
وهل لشهوة إقامة «إمبرياليات» إقليمية متسع أم أنها بشائر نهايات غير متوقعة لدول وممالك تظن نفسها مستقرة بالمال أو السلاح؟
… وهل تُدار «التجربة» في سوريا باحتراف هو سر الغموض المسيطر عليها؟ أم أنها تتم بمنطق أكثر عمقاً من فكرة «ضرب داعش» أو «إنقاذ بشار».. ويستهدف تغييراً أكثر جذرية على مستوى تكوين السكان؟
وماذا يفعل آلهة اليقين من حكّام أو مشعوذي الأحزاب والتيارات والمعارضات السياسية في هذا غير هز الرأس كما في حضرات الذكر… والدوران في متاهات الاستقطاب اللذيذة (بالنسبة لهم) كأنهم في «الحرب الباردة» أو كأنهم شركاء في «حرب عالمية ثالثة»… وما يحدث شيء غامض من فرط الوضوح. شيء أقرب إلى تقسيم حسب ثلاثية الثروة (البترول وخلافه) والديموغرافيا (إعادة توزيع القوى حسب السكان) والنفوذ (وبقاء سيطرة أميركا على الشرق الأوسط وروسيا إلى المتوسط ومنع الصين من التمدد..).
من ستجدّد له «الحرب» أو «ما يشبه الحرب» ذاكرته إذن؟
ــــ 2 ــــ
في سوريا انتهت المسافة بين «الداخل» و «الخارج»..
ولم يعد ممكناً الآن الحديث عن «حل» يخص سوريا من دون تصورات عن توزيع السكان في المنطقة أو من دون خريطة مصالح تضمن لأميركا وروسيا والصين (أي نظام تعدّد العظماء في إطار سيطرة وتوافق مع العظيم المنتصر في الحرب الباردة..)..
كما لم يعد ممكناً الحديث عن تغيير في هذه البقعة التي يتآكل عالمها القديم، من دون تغيير أوسع على مستوى العالم ستصنعه «سوريا الصغيرة» التي تنتشر في كل مكان عبر المهاجرين الذين قاتلوا من أجل الحياة، ضد القانون والاتفاقات والعواطف الرافضة لهم.
… هؤلاء سيغيّرون القوانين ومفاهيم «السيادة» (بمعناها القديم والمصابة بهستيريا الخوف من اللاجئين) أو موديل «الدولة القومية» النقية الذي كانت تحلم به جماعات «الفاشية المستترة والمعلنة» في أوروبا.
ويبقى هنا موقع «داعش» وأخواته من هذه الترتيبات… فالأوهام المصاحبة للطلعات العسكرية (أميركية وروسية) تتبخر سريعاً، فلا طائرات بوتين تضرب الإسلاميين ولا أميركا تريد إسقاط بشار سريعاً… هذه لافتات الترتيب الجديد التي يقتل تحتها مدنيون، وتتقاطع المصالح، وينهار العالم القديم بكل ما يحمله الانهيار من غموض مأساوي.
ــــ 3 ــــ
… إلى أين تذهب «حرب العالم» في المختبر السوري؟
سؤال ليست إجابته في تسريبات عن مشاركة مصر في الهجمات الروسية/ أو تصعيد أميركي سعودي على مستوى التحالف المضاد… ولكن في تأثير كل حركة على كل العناصر في «رقعة الشطرنج» المزدحمة بالعناصر، الخالية من أفق سياسي، فالمصالح جرداء، من دون أفكار حول شكل الدولة والجماعات في المستقبل، الحركة كلها تتم بتحفيز عناصر التخويف (داعش..) لتستمر الحركة بهذا الغموض المريب، والرعب المفتوح على مصائر دموية، لا يمكن توقيف السحرة الذين صنعوها من الأساس.