قطاع من ذهب فرّطت به الدولة
يتّكئ أبو يوسف مكي على عصاه ويسير قرب قطيع البقر، لم يتخلّ عن بقراته، أبقى عليها لغدر الزمن، كان يعلم أنه سيأتي يوم يكون فيه العزّ للبقر والمجد للحليب واللبن. رفض نصيحة أولاده بيع البقرات ليتقاعد، أصرّ على الاحتفاظ بها مردّداً «جايي يوم يكون البقر كالذهب»، وها قد أتى هذا اليوم، يقول الراعي القديم الذي يجول حقول منطقة النبطية بحثاً عن العشب الأخضر، ليخفّف عبء استهلاك العلف الذي سجّل ارتفاعات قياسية.
مئات الرعيان باعوا بقراتهم منذ زمن لمجاراة التطور من ناحية، ولأن الوزارة لم تعرهم اهتماماً، أبقتهم على الهامش من ناحية ثانية. يضحك أبو يوسف في سرّه «لو كنا نملك قطاعاً مزدهراً من البقر كنا أبعدنا سيف الاحتكار عنّا ولما وصل اللحم إلى الـ300 ألف ليرة». فضحت الحرب الأوكرانية ـ الروسية هشاشة سياسة الحكومة، وزادت من عمق أزماتها ومن بينها قطاع الماشية أو قطاع الذهب وقد فرّطت به الدولة لصالح الاقتصاد الريعي، وبدلاً من تطويره دفنته في عزّ شبابه.
لم يحظ قطاع تربية الماشية بدعم الوزارة منذ زمن، وبدلاً من أن ينتقل لبنان إلى بلد مصدّر للأبقار، بات مستورداً لها، ويتأثر بتقلّبات الأوضاع الإقليمية التي تهدّد حالياً بفقدان اللحم من السوق لو تعثر مصرف لبنان بدفع الاعتمادات. فقد الجنوب عمود اقتصاده الفقري «تربية المواشي» منذ زمن، وبعدما كان كلّ منزل يملك أبقاراً وغنماً، يعتاش منها كمورد رزقه، بات لا يملك قشة علف واحدة، والسبب وزارة الزراعة ومن خلفها الحكومة وسياساتها العقيمة. لطالما همّشت الدولة هذا القطاع، وجرّدته من كل دعم مالي وعينيّ، ودفعت مربّي الماشية إلى التنحي والعزوف عن ممارسة مهنتهم الأم.
قبل الـ2000 كان معظم أبناء منطقة النبطية يهتمون بتربية الماشية، بعضهم للاستهلاك المحلي من بيع حليب ولبن وأجبان، وبعضهم للاستهلاك العائلي، إنتاج لبن وجبن، وفي كلتا الحالتين كان وضع القطاع مقبولاً، رغم غياب اهتمام الدولة به.
يروي الراعي أبو محمد كيف اضطرّ لبيع معظم ماشيته، فمع ارتفاع كلفة التربية من أعلاف وغيرها، وغياب دعم الوزارة بدأ يبيع أبقاره الواحدة تلو الأخرى، ومن 100 راس بقر، بقي لديه حاليا 10 بقرات، يواجه صعوبة في تأمين الأعلاف لها، نظراً لارتفاع ثمنها. يقول إن «معظم مساعدات الوزارة للمربين ذهبت للمحسوبين على الجهات الحزبية، وغير المدعوم لم يحظ سوى بشهادة حسن سلوك».
تقديمات وهبات عدة وصلت إلى قطاع الماشية في السنوات الماضية غير أنها تبخرت في مخازن المحسوبين، ويؤكد ابو محمد «أن بعض المحسوبين على الوزارة والجهات الحزبية خزّن العلف لبيعه بأسعار مضاعفة وحرم منه الرعيان، والبقر المدعوم أيضاً ذهب إلى مزارع الكبار وحرمت السوق منه فارتفع سعر اللحم، واليوم نتّجه إلى سيناريو مشابه مع فارق بسيط أن الحق هذه المرة على الحرب المشتعلة في أوكرانيا».
يدرك الراعي ابو حسين أنه يملك كنزاً هذه الأيام، فالأبقار تدرّ ذهباً، سواء من الحليب وقد ارتفع ثمنه، إلى سطل اللبن الذي سجل 100 ألف وإلى الأجبان، ويعزو سبب زيادة الطلب إلى تنحّي الكثير من مربّي الماشية عن القطاع. لا ينكر أن سبب ارتفاع الأسعار يعود إلى سبب ارتفاع العلف «ونشتريه بالدولار الفريش»، ويخشى من ارتفاع السعر أكثر. يعتاش ابو حسين من هذا القطاع، حتى أولاده الذين يعملون في القطاع العام، عادوا ليرعوا البقر معه، فالقطاع منتج وحيوي، ولكنه غير مدعوم ما يعيق تطوّره.
يتبع قطاع المواشي وزارة الزراعة وقد أهملته ودفعته نحو التلاشي، بينما يحظى في الخارج باهتمام بالغ.
«لو كنا نملك قطاعاً حيوانياً كبيراً لما وصل سعر كيلو اللحم إلى الـ260 ألفاً ويتجه نحو الـ300 وأكثر»، هذا ما يردّده اللحام الراعي محمد مؤكّداً أن اللحم يتّجه إلى الارتفاع، ويتوقع أن يتخطّى سعر الكيلو الـ350 ألف ليرة في الأسابيع المقبلة، وهو مؤشر يقرأه اللحّامون بقلق وخوف، وسط سؤال من يحمي هذا القطاع؟
كانت تربية الماشية سائدة في القرى، إذ لا يخلو منزل من بقر وغنم، وهي سمة بارزة دمغت أهالي الجنوب ومنطقة النبطية قبل سنوات، وقد اتّخذوها مصدر رزقهم الأساسي. اليوم بات نادراً العثور على راعٍ، وبات يُنظر إليه على أنه باش ملك، فهل تهتم الوزارة بهذا القطاع وتعيد ترميمه لمواجهة الأزمة، أو على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟