Site icon IMLebanon

العيش في زمن الميليشيات الطائفية

 

تتفسّخ مجتمعاتنا العربية في السنوات الأخيرة، مع اتّساع فضاء الأصولية الدينية وانتشار واسع للميليشيات الطائفية المسلّحة، والتي بدأت تتسلل إليها محاوِلة إلقاء القبض على نُظم حياتها، وصولاً إلى رسم حدود جديدة لدولها.

هي أيام من الأكثر رداءة وسواداً التي يعيشها وطننا العربي والعالم الإسلامي الذي بدأ يترنّح على وقع انقسامات وصراعات مذهبية متنقلة، بعد أن بلغَ مدّ الأمواج الطائفية والأصولية ارتفاعاً لم نشهده في تاريخنا الحديث.

بعد سقوط السلطنة العثمانية بسنوات قليلة، بدأ يظهر في مصر في الربع الأول من القرن التاسع عشر، تحديداً العام 1928، مع حسن البنا احد المهندسين الأوائل للبنيان والنظام الفكري للجماعة الإسلامية، ليتبعه بعد ذلك سيد قطب الذي يعتبر من أوائل منظّري فكر السلفية الجهادية، ليبدأ صدامهما الأول مع الرئيس جمال عبد الناصر الذي حاول بداية استيعابهما داخل الثورة، لينتهي الأمر بمواجهة مفتوحة ما زالت مستمرة حتى اليوم. ولتعاود هذه الحالة التمدد بشكل كبير نهاية السبعينات العام 1979 مع الثورة الإيرانية والصعود المفاجئ لرجال الدين وحراس الثورة الدينية على منصة الحياة السياسية، مشكلين أول حكومة دينية في المنطقة والتي وصلت إلى السلطة بفائض كبير من الموروث الديني والبدء بتجربة ازدواجية السلطة وتقاسم السيادة والقرار بين الثورة والدولة بعد سيطرة الحرس الثوري على مفاصل أساسية للدولة مدعوماً من المؤسسة الدينية.

فمنذ ذلك التاريخ بدأ مشروع تصدير الثورة وإنفجرت الحرب الإيرانية العراقية (1980-1990)التي حملت في رحمها الكثير من عناصر الشقاق والخلاف والفرقة بين المكونات المذهبية والطائفية للمجتمعات العربية والإسلامية في كافة أرجاء المنطقة. ليواصل الإسلام السياسي الأصولي زحفه وصعوده المتجدد في ثمانينات القرن الماضي والشروع في رسم آفاق مرحلة جديدة من الصراع على السلطة وتنظيم صفوفه والتحضير للإنقلاب على السلطة القائمة فيها تمهيداً للإستيلاء عليها كما حصل مع علي بلحاج وعباس مدني مؤسسي جبهة الإنقاذ في الجزائر. توازياً مع وصول القاعدة إلى أفغانستان لمقاتلة الإجتياح الروسي هناك. وصولاً إلى مأساة الإرهاب على العالم والحضارة الإنسانية جراء هجمات 11 أيلول 2001 في نيويورك التي غيرت وجه ووجهة الصراع في العالم.

وما الذي شهدناه مع الربيع العربي في السنوات الأخيرة من تمدد لهذه الظاهرة في كل إتجاه، أبلغ دليل على الإنقسام الذي نعيش. فمن النفوذ المتصاعد لـ «حزب الله» من لبنان إلى سوريا إلى تمدد الحشد الشعبي إلى شمالي العراق وخروج ميليشيا الحوثي من مواقعها الى العاصمة صنعاء. هذا بالإضافة إلى تمدد الحركات الأصولية في كل من فلسطين ومصر وتونس بعد أن تنقلت القاعدة قبلهما من باكستان وأفغانستان لتصل جيوبها إلى مساحات واسعة من الجمهوريات الإسلامية السابقة للإتحاد السوفياتي، دون أن نذكر عشرات المجموعات الإرهابية في ليبيا وحركة الشباب في الصومال إلى بوكو حرام في نيجيريا ومن شرق آسيا في اندونيسيا وصولاً إلى الفيليبين، هذا بالإضافة إلى مئات المجموعات الأصولية من «داعش» وأخواتها التي تعمل على ضفاف وأرصفة الثورة السورية.

أمام هذا المشهد الذي يهدد وحدة الدولة وسيادتها ووحدة هذه الكيانات الفتية وتماسكها والعيش المشترك بين مكوناتها بأكثرياتها وأقلياتها، لم يبقَ أمامنا سوى التماثل مع الثورة الفرنسية (1789) وتجربتها التاريخية التي غيرت وجه التاريخ بعدَ أن حررت أوروبا من سطوة رجال الدين وسلطة الكنيسة وتأثيرها على الحياة العامة، وانحيازها إلى خيار الدولة العلمانية الديمقراطية التي يتساوى أمامها المواطنون في المساواة والعدالة والحق والمشاركة والحقوق وضمان حرية المعتقد والتعبير للجميع.

فهذا العالم العربي مدعو للعودة إلى الوراء متماثلاً مع التجربة الأوروبية في القرن التاسع عشر لإيجاد مثقفين وفلاسفة ومفكرين لفك أسر النصوص الدينية من مدعي الحقائق النهائية تماماً كما فعل أمثال هيغل وكانط وهوغو ونيتشه وكل فلاسفة التنوير الأوروبي الذين أرسوا بأفكارهم الإنسانية قيم الحرية ووضعوا الميزان الحقيقي لإرتقاء شعوبهم ومجتمعاتهم من خلال الإيمان بالعقل… والدولة… والحرية.

وصولاً إلى إطلاق ثورة إقتصادية وصناعية تعيد ترتيب أولوياتنا في الحياة، وتحقيق طموحات شعوبنا في العدل والعمل والإزدهار والرفاهية.

إننا جميعاً مدعوون لإسقاط سجن الباستيل العربي الذي وُضعَ فيه العقل العربي طويلاً في الجمود والتحجر على وقع أنظمة الإستبداد العربي التي أبدت شعوبنا في سجون القومية وشعاراتها التي إغتالت كل عناوين الفكر والتقدم والديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية.

ومواجهة كل الأفكار الدخيلة التي تحملها الميليشيات التكفيرية الطائفية المتخصصة في تعميم ثقافة الموت والفوضى والرصاص والسيوف والحروب الدينية العبثية التي تحمل في طياتها كل مآسي الإرهاب المتنقل في كل مدن العالم، في تجربة من التخلف والبلاء والحروب والفلتان والإقصاء والإغتيال والإلغاء لكل الأصوات الحرة، في استعادة لما شهدته أوروبا مع السلطة الدينية فيها في القرون الوسطى.

لقد أثبتت التجارب التي نعيشها في عالمنا الإسلامي منذ مائة عام أن نماذج الحكومات العسكرية والحكومة الدينية هما نماذج تاريخية متشابهة متواطئة.

والواحد فيهم يستدعي الآخر. فالأنظمة الشمولية هي الوجه الحقيقي للإستبداد ودويلات الأصولية الدينية الظلامية هي الوجه الآخر لمنظومة تكفير وإلغاء الآخر.

من هنا ليس هناك من سبيل أو خيار أمامنا جميعاً سوى السير إلى الدولة المدنية للإنتهاء من العصبيات المغلقة والعقائد الجامدة التي لم تنتج سوى اليأس والعجز والهويات الفرعية والشعارات المكررة التي لا تعمل سوى على اغتيال الفكر والحرية والتي لا يمكن أن تصنع المستقبل الذي تسعى إليه شعوبنا.

(*) عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل»