وهْم تراجع الدولار يصطدم بحقيقة تغييب الإصلاحات المرّة
أعطى تراجع سعر صرف الدولار في نهاية الاسبوع الفائت جرعة أمل للمواطنين. فانهيار العملة الوطنية في غضون أيام، من حوالى 4 آلاف ليرة إلى حدود 10 آلاف، رفع معدلات التضخم إلى أكثر من 500 في المئة وأعدم قدرة المستهلكين في الحصول على السلع والخدمات. ليبقى السؤال، هل يقف التراجع عند حدود 7 آلاف ليرة أو ينخفض أكثر أم يعاود الدولار ارتفاعه مطلع هذا الاسبوع؟
الإجابة عن هذا السؤال تتطلب معرفة السبب وراء انخفاض الدولار. فان كان التراجع ظرفياً، فهذا يعني انتظار قفزات جديدة في سعر الصرف، أما إن كان جوهرياً فهذا يعني الاستقرار تمهيداً لمزيد من الانخفاض.
إحتمالات تراجع الدولار
مع الأسف، إن تحليل تراجع الدولار بمقدار ألفي ليرة أو أكثر، يقودنا إلى احتمالين ظرفيين لا علاقة لهما بالإصلاحات. الاول موضعي يتعلق بعودة المغتربين وإمكانية ضخّهم كمية من الدولار في السوق تزيد العرض، وانتظار إجراءات مصرف لبنان لتزويد المصارف بالدولار. أما الثاني فيرتبط بـ “لعبة” امتصاص الدولار. حيث يعمد المتلاعبون، عند إحجام المواطنين عن بيع الدولار بسبب تأملهم بارتفاعه أكثر، الى اطلاق اشاعات بانخفاض سعره، الأمر الذي يدفعهم الى بيع ما يملكون لتحقيق أكبر ربح ممكن. فيرتفع العرض وينخفض سعره.
الاحتمال الثاني لا ينفصل، بحسب الخبير الاقتصادي باتريك مارديني عن “النمط السائد المتكرر منذ بداية الأزمة، وتحرير سعر الصرف بشكل مبطن. حيث ينخفض الدولار مطلع كل شهر ليعود ويسجل ارتفاعات قياسية جديدة بعد ايام قليلة”.
بروباغندا تطمينية
العملية هذه ترافقت مع “بروباغندا” تطمينية، وتسويق أخبار إيجابية تتعلق بتدخل مصرف لبنان بقوة في سوق الصرف، ومكافحة السوق السوداء وبدء حلحلة الازمات، وانتظار تدفق الاموال من المغتربين والسياح بعد فتح المطار. فكانت النتيجة “تشليح” الدولار من الوافدين على سعر منخفض، ليعاد بعد ايام قليلة إلى طرحها بسعر أعلى بكثير، ما يؤمن للصرافين غير الشرعيين مبالغ طائلة. ومما يسهل هذه العمليات هو “سهولة التحكم في السوق السوداء نتيجة صغر حجمها. إذ انها لا تتضمن المصارف والصرافين الشرعيين”، يقول مارديني. “وبالتالي يبقى هذا التراجع تقنيا تكتيكياً وليس جوهرياً. فالاتجاه العام هو صعودي لسبب بسيط يتلخص بعدم انتفاء أسباب صعود الدولار”.
الصعود مستمر
تعليق كل المساعدات الدولية، ورفض صندوق النقد الدولي اعطاء لبنان دولاراً واحداً قبل البدء الجدي والعملي في الإصلاحات، يدفع بالمصرف المركزي إلى طباعة الليرة اللبنانية لتأمين متطلبات الدولة المتزايدة. وطالما طباعة الليرة مستمرة فان انهيارها محتوم، ومن غير المستبعد ان تحقق ارقاماً قياسية جديدة لم تكن في الحسبان في يوم من الايام.
المحامي المتخصص في الشأن المصرفي عماد الخازن يرى ان “أسرع حل لوقف انهيار الليرة هو ضخ الدولارات الطازجة في الاقتصاد من بوابة المغتربين”. فانتظار تحقيق الإصلاحات يشبه ملاحقة سراب في الصحراء، وبالتالي “لا أمل امامنا لتعديل ميزان المدفوعات العاجز وتأمين الحد الأدنى من الاستقرار للعملة الوطنية الا استقطاب الحوالات المالية”، يقول الخازن.
مهلكة طباعة العملة
العجز الكبير في الميزان التجاري والذي فاق العام الماضي 17 مليار دولار يشكل الجزء الأهم من عجز ميزان المدفوعات. هذا العجز التاريخي كان يعوض في الماضي من التحويلات والاستثمارات المباشرة وتدفق الودائع إلى المصارف.
أما اليوم فانه حتى مع انخفاض الواردات فان الصادارت لن تستطيع تعويض الفرق بعدما أمعن القطاع العام في “شفط” الاموال لتمويل نفقاته وتحويل الاقتصاد إلى ريعي. وبالتالي فان “تراكم العجز في ميزان المدفوعات يعود الى نفقات الحكومة المرتفعة وارتفاع حجم الدين العام”، من وجهة نظر مارديني. و”ذلك بالرغم من التعمية المتمادية عن هذا الشق في تعليل أسباب العجز في ميزان المدفوعات”.
هذه الواقع ما زال مستمراً رغم حجم الأزمة مع فارق واحد، هو: استبدال الاستدانة لتمويل النفقات بطباعة العملة. فالعجز عن الاقتراض بعدما أعلنت الحكومة تخلفها عن دفع الديون، وتراجع الايرادات المالية بسبب الانكماش، وانخفاض مردود الضرائب والمرافق الحدودية، أفقد الدولة مداخيلها، ولم يبقَ امامها الا التمويل عبر طباعة مبالغ هائلة من الليرة، تصل شهرياً الى اكثر من 1.3 تريليون ليرة، وهو ما يؤدي الى تعمق انهيار سعر الصرف.
المجلس النقدي
أمام هذا الواقع المعقد يبرز طرح مجلس نقدي او ما يعرف بـ currency board وهو الحل الذي تحدث عنه ايضاً استاذ علم الاقتصاد في جامعة جون هوبكنز ستيف هانكي. هذا الطرح يعني عملياً طباعة ليرة لبنانية بمقدار تغطيتها بالدولار. فاذا دخل الى لبنان سنويا 10 مليارات دولار على سبيل المثال، نطبع مقابلها 15 ألف مليار ليرة، في حال كان سعر الصرف 1500. أو نطبع كمية أكبر أو أقل في حال تغير سعر الصرف. “هذه الطريقة لا تحد من التضخم فحسب، انما تفرض على الحكومة البدء بالإصلاحات الجوهرية، وتحديداً في القطاع العام المتضخم، لانها ببساطة لن تعود تستطيع طباعة المال من أجل تمويل النفقات”، يقول مارديني.
صحيح ان اتّكال الحكومة اليوم على طباعة العملة يؤمن تمويل نفقاتها المرتفعة ودفع الرواتب والاجور، انما يؤدي من الجهة الى الأخرى الى فقدان القيمة الشرائية. وهذا ما بدا أخيراً بشكل واضح من خلال وصول الحد الادنى للأجور الى 65 دولاراً، ورواتب كبار الموظفين الى أقل من 600 دولار.
الاستمرار بهذا النهج بعيداً من الإصلاح وعدم التوصل الى جرعة مساعدات فورية من صندوق النقد الدولي، سيفاقم المشكلة ويدفع الى فقدان الظروف الاستثنائية جدواها وفشل آليات دعم مصرف لبنان. وبالتالي يؤدي الى انخفاض الليرة اللبنانية وتآكل القيمة الشرائية كل يوم أكثر من الذي سبقه.