76 عاماً صار عمر قانون «الإثراء غير المشروع»، إلا أنه بقي بلا مفاعيل. منذذاك، لم تُسجل أي شكوى أمام القضاء بجرم الإثراء غير المشروع. هذا مشهد سوريالي، ولكنه ليس استثنائياً، وهو نموذج واحد عن قوانين كثيرة وضعتها السلطة لحفظ ماء الوجه، من دون أن يعني أنها قابلة للتطبيق
عام 1953، أُقرّ قانون «الإثراء غير المشروع» (عُدّل مرة واحدة عام 1999)، يومذاك، كان كميل شمعون يرأس البلاد. في الترتيب الزمني، كان الأخير الرئيس الثاني في البلاد التي لم تكن قد أكملت العقد الأول من الاستقلال. اليوم، تقف البلاد على عتبة العقد الثامن ما بعد «التحرير». مات كميل شمعون، وأتى بعده 12 رئيساً وعهداً. مرّت حرب طاحنة استمرت 15 عاماً وحروب صغيرة واتفاقات وتسويات، ولا يزال القانون «على حطّة إيد شمعون».
طوال 76 عاماً، لم يتغيّر شيء. ليس لأن أحداً لم يسرق أو يراكم ثروته بطريقة غير مشروعة، بل لأن القانون لا قيمة له. «كذبة كبيرة»، على ما يقول غسان مخيبر، البرلماني السابق. كذبة تجرجر «أكاذيب» أخرى، مقصودة في معظمها، عن قوانين وُضعت كي لا تطبّق. والأمثلة كثيرة هنا، من قوانين سابقة وقوانين ستعدّ لاحقاً، منها، مثلاً، «كذبة» مشروع قانون رفع السريّة المصرفية ومشروع قانون استعادة الأموال المنهوبة. قوانين «مستحيلة» وتشبه إلى حدّ ما «السلّة اللي ما بتعبّي مي»، لأنه منذ 76 عاماً «لا توجد شكوى واحدة أمام القضاء»، ولأنه «يتعذّر إثبات الجرائم التي ينصّ عليها القانون».
في الآونة الأخيرة، كانت ثمة محاولة لتسجيل أول دعوى تحت عنوان «الإثراء غير المشروع»، عندما ادّعت النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان، القاضية غادة عون، على رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي. لكنها، كانت «كذبة» هي الأخرى. إذ أن الادّعاء جاء على أساس «مخالفته لتعليمات المصرف المركزي في ما يخص ملف القروض السكنية»، وليس على أساس الإجابة على سؤال كيف راكم ثروته؟ هكذا، بقي الإثراء غير المشروع مجرد قانون مكتوب على الورق، لم يعِ أحد مساوئه التي تبدأ من تعريف «الإثراء غير المشروع» في المادة الأولى، ولا تنتهي بالمادة الأخيرة (المادة 20 ضمناً).
في الفقرة الأولى من المادة الأولى، يعرّف المشرّع الإثراء غير المشروع بأنه «الإثراء الذي يحصل عليه الموظف والقائم بخدمة عامة والقاضي أو كل شريك لهم في الإثراء، أو من يعيرونه اسمهم، بالرشوة أو صرف النفوذ أو استثمار الوظيفة، أو العمل الموكول إليهم (المواد 351 إلى 366 من قانون العقوبات)، أو بأي وسيلة من الوسائل غير المشروعة وإن لم تشكل جرماً جزائياً». مشكلة هذا التعريف الملتبس أنه «لا يدين أحداً». ما يحمله التعريف مجرد استعراض لما يعتبر أسباباً للإثراء غير المشروع، ولكن من دون أن يعني أن ثمّة شيئاً مثبتاً. فالرشوة بحد ذاتها ليست إدانة وإنما فعل، ولكي تصبح إدانة عليك بالدليل، أي أن تثبت الجرم الأصلي. بمعنى آخر: إثبات كل رشوة حصلت وتوثيقها حتى تصبح الإدانة واقعاً. وهذا أمر سوريالي بطبيعة الحال. إذ أن توثيق الرشوة وإثبات كيفية صرف النفوذ أو استثمار الوظيفة «يكاد يكون مستحيلاً»، يقول مخيبر.
ثمة جانب «هزلي» آخر يتعلق بمسألة التصريح عن الذمة المالية (المواد 4، 5، 6، 7 من الفصل الثاني التصريح عن الثروة). بحسب هذه المواد، يفترض أن يتقدم كل عامل في الشأن العام أو من يتولى مسؤولية فيه (ممن ذُكرت أسماؤهم في المادة الأولى) عند مباشرته العمل «يبين فيه الأموال المنقولة وغير المنقولة التي يملكها هو وزوجته وأولاده القاصرون (…) على أن يودع لدى المراجع المختصة (…)». في المبدأ، تكمن أهمية ذلك التصريح في معرفة ما يملك، لسؤاله عند المغادرة «عما صار يملك». غير أن هذا المبدأ هو الآخر بلا تطبيق، والمشكلة هنا تعود إلى تشعّب الجهات التي يودع لديها التصريح، وهي 11 جهة، تصب في نهاية المطاف في مصرف لبنان. وهذا ما يجعل من الصعب تحديد الجهة المسؤولة عن البتّ في تلك التصاريح وفتحها. هذه نقطة إضافية تجعل من القانون «لزوم ما لا يلزم». وفي هذا الإطار، يشير مخيبر إلى أنه في عام 2016، كان ثمة 76 ألف تصريح بالذمة المالية مودعة في مصرف لبنان، لكن بقيت مظاريف مغلقة، إذ أن «مغلفاً واحداً لم يُفتح»، نظراً «لعدم وجود جهة تفتحها»! من هنا تكمن أهمية «إقرار اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد»، بحسب مخيبر. وهي اللجنة نفسها التي ردّ قانونها رئيس الجمهورية، ميشال عون، قبل أشهر.
تعريف «الإثراء غير المشروع» في القانون ملتبس وإثبات كل رشوة حصلت وتوثيقها كاد يكون مستحيلاً
في «العورة» الثالثة من القانون، يمكن الحديث عن المادة العاشرة التي تنص على أنه يحق «لكل متضرر أن يقدم شكوى خطية موقّعة منه للنيابة العامة أو مباشرة لقاضي التحقيق الأول في بيروت». هنا، ورغم «أحقية» المتضرر بالتقدم بشكوى خطية في موضوع الإثراء غير المشروع، إلا أنه عملياً يحتاج المتقدم بالشكوى إلى أن يثبت أمام القضاء الصفة والمصلحة اللتين تدفعانه للتقدم بشكواه. علماً أنه في موضوع المال العام أو حتى مال «الغير»، «ما في صاحب مصلحة»، الأمر الذي يستحيل معه إثبات الصفة والمصلحة. أما، في ما لو حصلت «معجزة» وأثبت الشاكي صفته ومصلحته، فعليه أن يضم إلى ادعائه «المستندات التي كوّنت قناعته»، وأن «يسند» شكواه بكفالة مصرفية «بقيمة 25 مليون ليرة». أما في حال الخسارة، وهي أمر واقع، (لكونه لا يملك الأدلة، إن كان من ناحية إثبات الجريمة أو حتى قيمة التصريح)، وفي حال تقرر منع المحاكمة، فقد أعطى القانون للمرجع المختص قرار «تغريم الشاكي بمبلغ لا يقل عن مايتي مليون ليرة لبنانية وبالسجن من ثلاثة أشهر كحد أدنى إلى سنة بقرار نافذ على أصله، كما له أن يقرر إلزام الشاكي بناءً على طلب المشكوّ ضده بدفع تعويض عن الأضرار التي لحقت به من جرّاء تقديم الشكوى (المادة 15)»! وهو ما يعني حرفياً أنه «ما ترفعوا دعاوى».
لا تنتهي الكذبة هنا، فهناك المادة 12 أيضاً (الفقرة ب)، التي تربط بين الإثراء و«مظاهر الثراء التي لا تتفق مع تلك الموارد». فلئن كان يُسمح للنيابات العامة أو لقاضي التحقيق التقدم بشكوى إذا تبين أن مظاهر الثراء لا تتوافق مع «مداخيل المشكوّ منه»، إلا أن ذلك يبقى في إطار «القرينة»، فقاضي التحقيق هنا يدّعي على «ظاهر الثراء»، وهذا لا يكفي بحسب النظام الجزائي للإدانة، إذ أن ذلك يحتاج إلى دليل. فالقرينة بحسب قانون العقوبات «تكفي للملاحقة وليس للإدانة».
يوجد لدى مصرف لبنان 76 ألف تصريح بالذمة المالية لا تزال مغلقة بسبب عدم وجود جهة تفتحها
السؤال هنا، ما الذي يجعل تلك النصوص غير قابلة للتطبيق؟ يعدّد مخيبر جملة أسبابٍ، وإن كان في نهاية المطاف يعود إلى التعريف. وهذا ليس جواباً عبثياً. هذا بيت القصيد. فالتباس تعريف الإثراء غير المشروع هو ما يجعل من الصعوبة بمكان الوصول إلى حلّ هذه المعضلة. والمطلوب هنا تعديل هذا التعريف، وتوضيح الالتباسات في مجمل مواد القانون. وهو ما فعلته لجنة الإدارة والعدل على مدى 35 جلسة «برشت» خلالها القانون. بعدها، خرج الموضوع بنسخته المعدّلة، ومن أبرز التعديلات «توضيح الإثراء غير المشروع استناداً إلى التعريف القانوني المتعارف عليه دولياً، وتحديداً المادة 20 من اتفاقية الأمم المتحدة». معادلة بسيطة للإثراء غير المشروع تختصر بـ«الزيادة الكبيرة في الذمة المالية للموظف أو متولي السلطة العامة أو القاضي لا تبررها مداخيله العادية الشرعية». وبالتالي، إذا ثبت هذا الشيء، على الموظف حينها «أن يثبت أن هذه الثروة تراكمت بفعل مداخيل مشروعة». هذا جزء أول من «حل ثغرة التعريف»، لحقها في جلسات لاحقة حل ثغرات تصريح الذمة المالية والصفة والمصلحة و… التي طالبت اللجنة بأن تكون صاحبة الفصل هنا اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد.
اليوم، ثمة نسخة معدّة «جاهزة» من قانون الإثراء غير المشروع، منذ عام 2017، إلا أنها عالقة أمام إحدى اللجنتين، إما الدفاع وإما لجنة المال والموازنة. وهذا من المفترض أن يكون أول بند في الهيئة العامة للمجلس النيابي. ثمة مطلب آخر يتعلق بالقوانين المنوي صياغتها، ومنها قانون استعادة الأموال المنهوبة، إذ يفترض بالمقبلين على صياغته أن يكون في الحسبان مناقشته على ضوء «التعديلات التي أجريت على قانون الإثراء غير المشروع»، يختم مخيبر. وهذه ليست دعوة مجانية، وإنما تأتي من صلب الترابط بين الإثراء غير المشروع واستعادة الأموال المنهوبة.