قد تتوصّل الحكومة الجديدة لدى تشكيلها الى اتفاق حول برنامج إنقاذ مع صندوق النقد الدولي بعد «ترقيع» شروط وبنود البرنامج والتعهد بتنفيذها كاملة، إلّا انّه عندما يحين «وقت الجدّ»، قد لا تنفذ الحكومة الإصلاحات المطلوبة، خصوصاً في حال لم تملك صلاحيات استثنائية، مما سيضّطرها للعودة الى مجلس النواب لإقرار كلّ اصلاح واجراء، أي الى ملعب الطبقة السياسية، وهنا تكمن المشكلة.
بين فقدان مواد غذائية اساسية من الاسواق وانقطاع مواد حيوية كالبنزين والمازوت، والتهديد المستمرّ بالعتمة الشاملة، ومواصلة الليرة انهيارها مقابل تفاقم الأزمة السياسية يومياً، وانسداد الافق بأي حلول قريبة لتأليف حكومة انقاذية تستأنف ورشة الاصلاح وتمهّد لانطلاق مرحلة جديدة لخروج لبنان من أزمته وحصوله على الدعم المالي الخارجي الذي هو في أمسّ الحاجة اليه، يبدو انّ المجتمع الدولي فقد عزيمته واهتمامه أيضاً بلبنان. وصار المجتمع الدولي على يقين بأنّ المسؤولين اللبنانيين غير مستعدين لتنفيذ بعض التغييرات الحقيقية، من أجل الحصول على مساعدات تمويلية دولية، وفقاً لما صرّح به أمس الاول نائب رئيس البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فريد بلحاج، الذي قال انّه «لسوء الحظ، حتى الآن، لم يكن لبنان مهتماً أو راغباً أو قادراً على مساعدة نفسه».
على غرار تعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، نتيجة اختلاف الاطراف المعنيّة حول خطة الحكومة الانقاذية وارقامها وبنودها، يسلك ملف التدقيق الجنائي مسار الفشل نفسه اليوم، وسط التجاذبات القائمة بين مصرف لبنان ووزارة المالية، من بيانات تأكيد تقابلها بيانات نفي مطلق، والتي ستؤدي في نهاية المطاف للإطاحة بشركة «ألفاريز اند مارسال» للمرة الثانية على التوالي، تماماً كما حصل مع صندوق النقد الدولي، الذي لم يستطع القيام بعمله ومناقشة اي برنامج إنقاذ، بسبب الخلافات المحلّية بين الادارات المعنيّة.
وفي غياب حكومة شرعية تستلم زمام الامور، ستواصل الأزمة في لبنان تفاقمها، وستستمرّ الطبقة الحاكمة في التسبّب بتعثر أي محاولات، إن وُجدت، للقيام بالاصلاحات المطلوبة دولياً.
في هذا السياق، أكّد مسؤول مالي دولي لـ»الجمهورية»، انّ الانهيار الاقتصادي في لبنان مأساة ذات صناعة محلية، لم يشهد مثيلاً لها في العالم سوى مرات قليلة في التاريخ الحديث. معتبراً إنّ المعاناة والإذلال اللذين يتعرّض لهما الشعب اللبناني مفجع.
وسأل: «حتى لو تمّ الاتفاق على حكومة جديدة، هل ستنجو من ردّ فعل الشارع بعد أن تنفّذ تدابير اقتصادية غير شعبية، مثل وقف الدعم وتعويم العملة المحلية؟ «أشك في ذلك».
وقال: «كان واضحاً منذ أوائل العام 2000 أنّ السياسات الاقتصادية اللبنانية غير مستدامة. ونتيجة عدم قيام الحكومات المتعاقبة بإصلاح التشوهات في الاقتصاد، واعتماد بدلاً من ذلك، سياسات غير مستدامة، فإنّ البلاد تواجه اليوم الانهيار الاقتصادي الحالي».
وذكرّ بأنّ التحذيرات منذ بدء الأزمة كانت تشير الى انّه في حال لم يتفق لبنان مع صندوق النقد الدولي على برنامج إنقاذ، فإنّ الأوضاع الاقتصادية والمالية ستتدهور بشكل كبير وسيزداد الشعب اللبناني بؤساً وفقراً، «وهذا ما وصلنا اليه اليوم».
أضاف: «هناك انهيار اقتصادي ومالي، لم تتمّ مقاربته ومعالجته منذ تشرين الاول 2019. لا بل تستمر السلطات في إضاعة الوقت».
وأشار المسؤول الدولي، الى انّ صندوق النقد الدولي تعامل مع العديد من البلدان ذات الإدارات الاقتصادية السيئة والأزمات الاقتصادية والمالية الخطيرة، إلّا انّ لبنان فاق التوقعات العالمية في سوء السياسات الاقتصادية المعتمدة والأكثرها تشويهاً، من أي من تلك البلدان التي تعامل معها الصندوق.
وتابع: «يواصل صنّاع القرار في لبنان اتخاذ التدابير العشوائية والمجتزأة، والتي تسبّب المزيد من الضرر الاقتصادي. لا يملك أي زعيم أو حزب سياسي الإرادة أو الشجاعة لتأييد أو تنفيذ التدابير اللازمة لمعالجة الأزمات الاقتصادية التي تواجه البلاد. وحتى لو افترضنا أنّهم قادرون أخيراً على الاتفاق حول حكومة جديدة، نظراً للانقسام السياسي في البلاد، لا أستطيع أن أرى كيف سيتمكنون من تنفيذ الإجراءات الاقتصادية التصحيحية اللازمة. فمن دون التزام سياسي واسع وقوي بالإصلاح، لن ينجح أي برنامج لصندوق النقد الدولي. وحتى لو تمّ الضغط على صندوق النقد من أجل التوصّل للاتفاق مع لبنان، فإنّ الحكومة ستعجز عن تنفيذ برنامج الإنقاذ».
واشار على سبيل المثل الى اليونان وتونس اللتين فشلت عدّة حكومات فيهما في تنفيذ برامج صندوق النقد الدولي بسبب غياب الدعم السياسي الكامل لها، ما ادّى في النتيجة الى سقوط تلك الحكومات.
واكّد المسؤول الدولي ردّاً على سؤال، انّه من دون تشكيل حكومة، لا امكانية لحصول لبنان على أي دعم مالي مباشر او خطوط ائتمان من قِبل الصندوق، خصوصاً في ظلّ غياب قانون «كابيتال كونترول»، الذي يجعل من الصعب على أي جهة دولية ايداع أي اموال في مصرف لبنان من دون وجود نصّ قانوني يحدّد معايير استخدام تلك الاموال.
وشدّد على انّ أي اتفاق مع صندوق النقد الدولي، لن يتمّ تنفيذه في ظلّ وجود هذه الطبقة السياسية الحاكمة، «خصوصاً في حال لم تُمنح الحكومة الجديدة صلاحيات استثنائية، ما سيؤدي الى الرجوع لمجلس النواب لإقرار أي إجراء او اصلاح، ويعطّل بالتالي التنفيذ».
واستغرب عدم اعتراف السلطة الحاكمة لغاية اليوم بحجم المشكلة وعمقها، وعدم تشخيصها، من أجل وضع خطة لمعالجتها، مذكّراً بأنّ المفاوضات مع صندوق النقد الدولي فشلت بسبب عدم رغبة جمعية المصارف ومصرف لبنان واللجان النيابية الاعتراف بالخسائر، «علماً انّه لو تمّ الاعتراف بتلك الخسائر في حينها، عندما كان سعر صرف العملة المحلية يبلغ حوالى 2000 ليرة مقابل الدولار، لما كانت الليرة شهدت مزيداً من الانهيار، ولما كنا وصلنا الى ما نحن عليه اليوم».