Site icon IMLebanon

ما بين التوطين والإستيطان

 

 

أيّ مشروع عمل يُطرح يجب أن ينطلق من معايير تحدّد منهجيّة واضحة له، بهدف الوصول إلى النتائج التي يصبو إليها هذا المشروع. من وجهة النّظر هذه تنطلق مسألة طرح المشروع اللبناني الذي نريد. وعلى هذه الأسس تقوم مقاربة المشاريع المطروحة. مع العلم أنّ لا خلاف بين أيّ مراقبين عاديّين في ما يتعلّق باختيار المعايير التي من خلالها نستطيع الاستنتاج أيّ لبنان نطمح إليه. والواضح حتّى الساعة أنّ لبنان الممانعة الذي نعيشه راهناً لا يشبه لبنان الذي عاشه آباؤنا وأجدادنا. ولا حتّى لبنان الذي نطمح إليه. في هذا السياق يكفي النّظر إلى مؤشّر اليأس الاجتماعي الذي يتزايد يوماً بعد يوم وينتج عنه المزيد من هجرة العائلات. ناهيك عن بعض الحالات التي تترجم بعمليّات انتحار فرديّ، أو بجريمة منظّمة جَمَاعيّاً تحت تداعيات تأمين الحاجات الأساسيّة للمعيشة. مع ما قد يترافق معها من حالات جرميّة نتيجة التفلّت الأمني تستغلّ لابتزاز بعض الميسورين وهم باتوا قلّة قليلة. والأخطر في هذه الحالات التي أشرنا إليها هجرة العائلات وليس هجرة الأفراد. فهذا يؤدّي إلى انسلاخ جَمَاعيٍّ سيفرغ البلد من مختلف الفئات العائليّة. والملاحظ كذلك في موضوع الهجرة، أو حتّى مجرّد السفر بداعي تحصيل العلم أو العمل، هجرة الجيل الذي يتراوح بين العشرين والأربعين سنة؛ ما يعني ذلك تفريغ البلد من طاقاته الشبابيّة الممكن أن تكون الوسيلة الوحيدة المتبقيّة للإنتاج الإجتماعي، سواء أكان إقتصاديّاً أم تكوينيّاً. بمعنى آخر سيتحوّل المجتمع اللبناني إلى مجتمع هَرِمٍ غير منتِجٍ بانتظار أن ينمو هذا الجيل الذي لم يتخطَّ بعد سنّ المراهقة.

 

عمليّاً، إذا لم نستدرك خطورة هذه المسألة وتداعياتها لن يتمكّن المجتمع اللبناني من النّهوض من هذا الدّرك الذي وصل إليه حتّى لو أُتِيحَت له الفرص الاقتصاديّة. فالمسألة إذاً تكمن في فهم الفلسفة التي يجب أن يقوم عليها مجتمع ما بعد الأزمة. لذلك، لا يمكن أن يبقى المجتمع اللبناني مجتمعاً حَضَرِيّاً يرتبط عيشه ارتباطاً جوهريّاً بالمدائن فقط. على مجتمعنا العودة إلى الأرض وتحويل الأرياف والقرى والدّساكر الجبليّة إلى مناطق منتجة وقابلة للحياة. على هذه الأسس يجب أن تبني الأحزاب اللبنانيّة استراتيجيّاتها المستقبَليَّة لا أن تعتمد فقط على دعم الانتشار اللبناني لتأمين المساعدات للإستمرار بطرق العيش نفسها. بل يجب أن تتحوّل هذه المساعدات إلى كيفيّة إحياء الحياة خارج إطار المدائن على امتداد الجغرافيا اللبنانيّة. وفي هذا السياق، مَن يملك الأرض في المرحلة المقبلة سيملك البنية الإجتماعيّة، هذا إن أحسن إدارة هذه الأرض. لذلك، على الأوقاف الدينيّة في لبنان أن تنتقل من إدارة أملاك على القاعدة التّجاريّة فقط لتتحوّل إلى كيفيّة إدارة استثمار هذه الأوقاف، لا سيّما الزراعيّة. وهذا ما يجب أن يتواءم مع سياسة استيطانيّة ترييفيّة مصحوبة بإنشاء تعاونيّات زراعيّة. وهذه المسألة لن تكون صعبة أو مستحيلة إن تمّ فتح باب الاستثمار للأوقاف على اختلاف انتماءاتها الدينيّة. لأنّ ذلك سيؤمّن فرصاً إسكانيّة ومهنيّة ستوفّر قدرات الاستمراريّة للجيل الذي سيكون مُنطَلَقُ البناء منه وفيه.

 

هذه المعايير التي يجب أن تحكم مرحلة ما بعد الانهيار. وبالتّالي هويّة الرئيس العتيد والعهد القادم. على هذه الأسس نختار الرّئيس الذي يحمل الرؤية الاجتماعيّة الانقاذيّة؛ ماذا وإلّا سينجح المجتمع الدّولي بفرض عمليّة توطين أيّ لجوء إلى لبنان، لأنّه بذلك قد يتحوّل المجتمع اللبناني الفارغ من طاقاته وقدراته إلى بيئة خصبة للتوطين. ولعلّ هذا ما نجح بفرضه واقعاً اجتماعيّاً لبنان الممانعة الذي نعيشه اليوم. فأصحاب هذا المشروع واضحو الرّؤى الاجتماعيّة والهوِّيّاتيّة التي يضمرونها للبنان المستقبل. وما بين التوطين والاستيطان يجب أن نختار إعادة الاستيطان في وطننا على قواعد اجتماعيّة استثماريّة جديدة لإعادة خلق الوطن الجديد الذي نصبو إليه. وهذا هو المشروع الذي أُسِّسَت على قواعده الكِيانيّة اللبنانيّة التي تُرجِمَت سياسيّاً في إعلان لبنان الكبير. ولكن لم يتمّ استكمالها للأسباب المعروفة. هذه هويّتنا. لن نرفضها. ولن نقبَلَ سواها. أمّا أولئك الذين يرفضونها ويضمرون غيرها على الأسس الإيديولوجيّة الصفويّة أو حتّى الذين بشّروا يوماً بإنشاء ولاية إسلاميّة أو إمارة أو اتّحاد جمهوري عربي أو حتّى وطن قومي مسيحي أو غير ذلك، فهذه المشاريع كلّها سقطت بالتجربة التي دمّرت الإنسان اللبناني. فهل نجرؤ أن نكون أسياداً بالعقل الوطني لا مَسودِينَ بالتجارب المشارِعِيّة الساقطة قبل أن نخسر الفرصة الأخيرة لبناء لبنان المستقبل؟