ذكريات الماضي لا تزال تغزو بسمومها في صلب أجيال المستقبل، الذين يتوارثون دمعة أحزان طبعت سهواً على وجوههم المكلّلة بوصمة حرمان من حقوقهم المدنية، وذلك ضمن مجتمع لبناني متقوقع، لا إنصاف ولا عدالة اجتماعيّة بين سائر أفراده. غشاوة ولا يلزمهم بالواجبات الشرعيّة.
وبين غالب ومغلوب على أمره، محرومو الهوية والأرزة اللّبنانية…هم مواطنون أحياء ولكن «بلا أجنحة»، حُرموا نعمة الحرية في ربوع سجن مشرّع يولدون في داخله ويموتون، بلا حق رفضه أو الإستنفار عليه.
ويفتقر لبنان الى إحصاءات رسمية مسحية لعدد مكتومي القيد اللّبنانيين، إذ يقدّر عددهم بنحو 80 ألفاً، علماً أنّ الإحصاء الإداري الأخير المثبت للجنسية اللّبنانية تمّ عام 1932.
في ورشة متواضعة لإعادة تأهيل السيارات في بلدة عكارية، ينهمك «كرم» لتحصيل لقمة عيشه، وتكاد لا تلمح وجهه المتشح بالسواد لولا بريق عينيه اللتين غدرتهما غيمة القدر وزرعت في داخلهما خوفاً على طفل أنتجته لهفة الخطأ. تخالجه حسرة على واقعه المشؤوم، وبغصة يسترجع «كرم» (23 سنة) مراحل مؤلمة من ماضيه، ويقول لنا: «لم أدرك العذاب الذي تحمّله أهلي كونهم مكتومي القيد، فكنت في مرحلة المراهقة ألومهم لعدم حصولي على بطاقة هوية وما تمنحه من حقوق ولعدم إدخالي الى المدرسة. ما جعلني أنعزل عن المجتمع وسط معانات نفسيّة أدت الى نشوء أفكار مظلمة كالسرقة والإنتحار».
ويضيف كرم: «في لحظة تخلّ اكتشفتُ أنّ الحل لا يكمن في الموت بل بمقاومة المحيط الإجتماعي، واقتنعت بأنّ جهل الأهل لم يكن السبب الوحيد وراء إغفال تسجيلي في الدوائر الرسمية، لا بل فقدانهم أوراقهم الثبوتية وظروفهم الإقتصادية، فضلاً عن لامبالاة الدولة اللّبنانية بالمعانات المعاشة». «كرم» لم ينعم بطفولته، إذ عندما أكمل الخامسة اصطحبه والده ليتعلم مهنة تصليح السيارات، ساعياً الى بناء مستقبل له.
واليوم يتكرر السيناريو عينه، «كرم» تزوج من مكتومة قيد وزواجه غير مسجّل وسيرزقان بمولود مكتوم القيد بعد نحو ثلاثة أشهر. فهل سيستطيع هذا الطفل تحمّل قدره الذي فرض عليه حكماً بعد محاولات والده لتحصيل بعض الأوراق القديمة؟
تاريخ مأساة
مع ولادة معاهدة «لوزان» عام 1923 رسخت حدود الكيانات لسائر الأراضي المنسلخة عن السلطنة العثمانية لتنشأ معها جنسية ساكنيها، وبذلك ولدت الجنسية اللّبنانية تحت رعاية الإنتداب الفرنسي في 30 آب 1924 لتنشأ معها معضلة مكتومي القيد.
وصدر القرار 2825 في لبنان فكان ترجمة عملية لما نصّت عليه المعاهدة، وثُبتت التابعية اللّبنانية لكلّ من كان راشداً ومقيماً في أراضي لبنان الكبير، أمّا القاصرون فيتبعون آباءهم.
وأمّا الموجودون خارج الأراضي اللّبنانية والذين عادوا وانقضت المهل المتاحة قانوناً لاختيارهم الجنسية اللّبنانية، فيتحولون مكتومي قيد، خصوصاً في حال لم يحصلوا على الجنسية الأجنبية أو غير حائزين على أيّ مستند شرعي يثبت ولادتهم على الأراضي اللّبنانية.
الى ذلك، اعتبر سكان وادي خالد أنّ عملية إحصاء 1932 تشكل مؤامرة تستهدفهم، فرفضوا الجنسية خوفاً من الخدمة العسكرية والضرائب من مركزية الدولة. بينما قبائل العرب الرحل فلا يُعتبرون لبنانيين إلّا إذا أثبتوا إقامتهم على الأراضي اللّبنانية لمدة 6 أشهر.
وانطلاقاً مما سبق، أوضح المحامي شاكر حريز في حديث لـ»الجمهورية» أنّ «مكتومي القيد هم الأشخاص الذين لا يملكون هوية أو أوراقاً ثبوتية تعرّف عنهم، وهم الأفراد الذين لا يتمتعون بشخصيّة قانونيّة، وغير مسجلين في دوائر النفوس اللّبنانية»، مشيراً الى أنّهم «محرومون من أدنى الحقوق المدنية كالعمل وتسجيل زواجهم رسميّاً والإنتخاب والطبابة…».
وعن العوائق الحقيقيّة أمام تصحيح وضعهم، يلفت حريز الى أنّ «أهمّها العجز المادي والجهل الذي يسود الفاقد الوجود القانوني والأهل لجهة عدم معرفتهم إجراءات التسجيل في دوائر النفوس وغياب المستندات اللّازمة».
ودعا الأهل الى «أن يصرّحوا عن طفلهم للمختار ضمن مهلة الشهر من تاريخ الولادة وضمن مهلة السنة لدائرة النفوس تحت طائلة الغرامة»، مضيفاً أنّه «في حال انقضت المهلة الإدارية (سنة) لا تعود هنالك إمكانية للتسجيل، إلّا بواسطة القاضي الناظر بقضايا الأحوال الشخصيّة عن طريق دعوى للتسجيل يقدمها محامٍ».
وأكدّ حريز الى أن «العائق الأساس أمام إعادة القيد هو غياب التشريعات التي تواكب هذه الظاهرة لإنهائها قانوناً وامتثال المديرية العامة للأحوال الشخصية للقانون، فضلاً عن تقاعس مجلس النواب عن القيام بدوره»، مشدداً على «الدور المحوريّ التي تلعبه التّجاذبات السياسيّة في إعاقة تصحيح القيد والتّجنيس لأسباب طائفية».
التعديلات القانونيّة… دُر
تسعى «لجنة معالجة أوضاع الأطفال اللّبنانيين المكتومي القيد» المنبثقة من تجمع الهيئات من أجل حقوق الطفل في لبنان لمعالجة مشكلة المكتومين من خلال العمل على تعديل القوانين وتوعية المجتمع الى نتائج إغفال التقيّد بالإجراءات القانونيّة.
وذكّرت رئيسة اللّجنة أليس كيروز في حديث لـ»الجمهورية» بموعد إطلاق حملتهم التوعوية حيث أعلن وزير الشؤون الإجتماعية رشيد درباس يوم 25 شباط من كل عام «يوم الطفل اللّبناني المكتوم القيد»، بالإضافة الى إصدارهم دليلين، يتناول الأوّل الإجراءات القانونيّة والإدارية الواجب اتباعها لتسجيل المولود في لبنان أو خارجه في دوائر النفوس اللّبنانية. والثاني، دليل عملاني يعرّف الأهل أو صاحب العلاقة على الخطوات في حال يريد التقدم بدعوى نفوس أو جنسيّة.
وعن التعديلات المطلوبة لمعالجة الأوضاع القانونية للأطفال اللّبنانيين المكتومين والتي عملت اللّجنة على إنجازها، أوضحت كيروز أنها تمثلت في مراجعة «قانون قيد وثائق الأحوال الشخصيّة» الصادر في 7 كانون الأول 1951 من أجل تعديله أو إلغائه وإقرار قوانين جديدة، حيث ارتأت اللجنة «تعديل المادة 12 من هذا القانون وإضافة الأم وقاضي الأحداث في عملية قيد المولود بعد أن كانت تقتصر على قرار قضائي يصدر في غرفة المذاكرة بناءاً على طلب النيابة العامة أو صاحب العلاقة».
وأضافت: «أنّ التعديل الثاني أنجز على المادة 25 من القانون 428 /2002 المتعلّق بـ»حماية الأحداث المخالفين للقانون والمعرضين للخطر»، بينما الإقتراح الأخير يضيف فقرة على المادة 501 من «قانون العقوبات المتعلقة بإهمال الواجبات العائلية» بحيث يعتبر إهمال الأهل لتسجيل مولودهم جرماً جزائياً يعاقب عليه القانون».
شبه تسهيلات
تحاول المديرية العامة للأمن العام تسهيل تنقل مكتومي القيد، فبحسب ما أوضحه مرجع أمنيّ في مركز الأمن العام في سراي جبيل لـ»الجمهورية» فإنه تمّ التوقف عن إعطاء بطاقة تعريف للمكتوم واستعيض عنها بإعطائه «جواز مرور».
وفي موازاة ذلك، لا يخوّل قانون المختارين الصادر في 1947/11/27 لاسيما أحكام المواد من 14 الى 29، المختار إعطاء إفادات، بطاقات أو شهادات، ما يوجب مساءلة المختار المعني. وبحسب وزارة الداخلية والبلديات فإنّ «الإستحصال على مثل تلك البطاقات يساهم في إخفاء هوية الأشخاص الحقيقية ويساعد كلّ مطلوب على التجول بحرية من دون ملاحقة قانونية».
أمّا كتاب المديرية العامة للأحوال الشخصية المتعلق بآلية إعطاء المختارين للمكتومين إفادات تعريف تحت عنوان «مكتوم قيد» ، فحصر إصدار الإفادات المتعلقة بالمكتومي القيد، لمَن لم يكن من والد لبناني، بالدوائر المعنية في المديرية العامة للأمن العام».
ونصّ على «ضرورة توقّف المختارين عن إصدار أية إفادات تتعلق بالأشخاص المكتومين إذا تعلق الأمر بأشخاص لا يتصلون بوالد لبناني، لعدم تعلّق هذه الإفادات بمهماتهم. أمّا بالنسبة الى الأولاد الذين ولدوا لآباء لبنانيين ولم يتم تسجيلهم على خانتهم في سجلّات المقيمين اللّبنانية خلال المهلة المتوجبة قانوناً، فإنّه ليس هنالك من مانع لإصدار المختارين إفادات شرط أن ترفق هذه الإفادات بنسخ عن بيانات قيود صادرة عن أقلام النفوس المختصة تثبت محلَّ ورقمَ قيد الوالد في سجلات المقيمين».
إحذر… هو حاقد
وسط مجتمع يسوده الإنحلال الإدراكي بحيث يهلّل لمترفعي الخطاب الجماهيري وممتلكي السلطة، يرزح مكتومو القيد في منفى وتسيطر عليهم سلسلة من الإنبعاثات النفسيّة. وبين الرضوخ عبر انتظار إشارات الموت البطيء أو الإستنفار، يلجأ بعض المحرومين الى سلوك درب الجريمة.
فبحسب الإختصاصيّة في العلوم الإجتماعيّة الدكتور مي مارون، «يعاني مكتوم القيد نظراً لمجموعة المؤثرات الحياتية من عدم الثقة وتقدير الذات، فقدان الإنتماء الى الجماعة الصغيرة والكبيرة، وعدم التوازن العاطفي…». وقالت مارون للـ«الجمهورية» إنّ «هذا الواقع قد يدفعه الى الإنحراف، كالإقدام على الإنتحار أو إرتكاب الجرائم، لأنّه حاقد على مجتمع لم يعترف به ولم يقونن وضعه».
الحلّ… بالدستور والمعاهدات
تهدف «جمعية المبادرة الفردية لحقوق الإنسان» (مصير) من خلال نشاطاتها التوعوية الى المطالبة بحقوق مكتومي القيد. ففي حديث لـ»الجمهورية» مع رئيس الجمعية مصطفى الشعار، لفت الى أن «الجمعية تساعد مكتومي القيد عبر مستشاريها القانونيين من المحامين، فتشجعهم وتدلهم على الطرق القانونية»، مشيراً الى أنّ «90% من مكتومي القيد ولدوا من أمّ لبنانية أو أُغفل تسجيلهم ضمن إحصاء عام 1932.
ففي حال أُعطيت الأم حقّها بمنح أوﻻدها جنسيتها وتم تصحيح وضع حملة جنسية قيد الدرس نكون قضينا على 90% من هذه المشكلة ويبقى 10% منهم تحلّ قضاياهم عبر المحكمة».
ولفت الشّعار الى أنّ «لبنان وقّع على المعاهدة الدولية للحدّ من مكتومي القيد، لكنّه ﻻ يطبّق أيّ معاهدة أو دستور أو شرعة حقوق الإنسان، كذلك يخرق معاهدة حقوق الطفل والمعاهدة الدولية للحقوق المدنية والسياسية، وكلّها معاهدات أبرمها ولم يطبّقها، والتي قد تمثل حلاًّ جذريّاً لمعالجة المشكلة»، نافياً تعاون الدولة «في ظل تحوّل القضية الى طائفية جندرية بامتياز».
ويبقى السؤال، الى متى يستمر تقاعس السلطات اللّبنانية عن واجباتها؟ وهل تبريراتها بأن حلّ مشكلة مكتومي القيد ستؤدي الى الإخلال بالتوازنات الطائفية والمذهبية ستكفي لإسكات شعب لطالما رفض أبناؤه الظلم وسعوا الى ترسيخ قيم تنادي بالمساواة الإنسانيّة وثقافة تقبّل الآخر؟
الى متى يستمر تقاعس السلطات اللّبنانية عن واجباتها؟