بعض من مشكلة هذا البلد يرجع أيضاً الى لوك الشعارات الاصلاحية نفسها بشكل ببغائي منذ السبعينيات الى اليوم، بحيث ان ما هو مطبوع في ذهن النخبة والعامة على حد سواء كشعارات اصلاحية يصبح بمنأى عن كل مناسبة في الزمان والمكان وعن كل مساءلة عن الراهنية. على صعيد التفكير السياسي يعاني البلد من قحط مصدره تشمّع الشعارات الاصلاحية نفسها، وتحوّلها الى منفصلة عن الذوات الاجتماعية التي يفترض ان تحملها وان تكسيها المعنى والمبنى.
بعض هذه الشعارات أجوف أو تجوّف مع الزمن، ولا يزال ينظر الى مفهوم الدولة كما كان قبل عدد من الثورات في المفاهيم؛ فالشعارات الاصلاحية في هذا البلد اكثرها يلف ويدور حول نقطة واحدة، وهو التبشير بالفكرة اليعقوبية المركزية عن الدولة، «دولة الانصهار»، وعندما يعمّم السؤال البائس «أين هي الدولة؟« نضع على أعيننا غشاوة، اذ يصار الى افتراض الدولة ككائن خرافي مفقود ومشتهى، بدلا من الانطلاق من حال الدولة المعطوبة، لكن القائمة والتي ظلت قائمة حتى في عز سنوات الحرب.
الشعارات الاصلاحية التي خيضت بجزء منها بدايات الحرب اللبنانية لم يُعَد النظر فيها كشعارات يمكن ان لا تكون اصلاحية بالفعل، وليس فقط غير واقعية على ما يجري تداوله.
منذ البرنامج المرحلي للحركة الوطنية والنخب اللبنانية أسرى لشعارات بعينها حول سبل الاصلاح في البلد وتجاوز الطائفية واقرار قانون الانتخاب الأفضل الخ. وعلى الرغم من ان هذا البرنامج سحبت بنده العلماني الاحزاب الاكثر علمانية في هذه الحركة، فإنه لا يزال يفرض وطأته على النخب وعلى تصورات العامة عن التحديث والاصلاح المرغوبين حين تكون مفاتحة بالأمر. اكثر من ذلك، ما كان شعارات لفريق في وجه آخر من اللبنانيين في منتصف السبعينيات نجح في التحول الى مقياس الخطاب الاصلاحي التحديثي بالنسبة الى الجميع. وهذا ما يعرقل الانطلاقة من المجتمع وتعدديته القائمة ومشكلاته الملموسة والتي لا يمكن حلها بجهاز مركزي سحري عرمرمي واحد يدعى الدولة.
في هذا الموسم من الحيوية التي يشهدها الشارع اللبناني، فإن السبيل لحماية هذه الحيوية من الكائدين لها هو مراجعة الشعارات الاصلاحية نفسها، والبحث في اربعين عاماً من التطور السياسي لمختلف التجارب عبر العالم، ظهر فيها أنّ الديموقراطية التمثيلية نفسها بأزمة ولا بدّ أن تفتح على آفاق أكثر تداولية وتشاركية، وعلى أنماط من ممارسة السلطة تكون أكثر محلية وأكثر انسجاماً مع تنوع الناس ثقافياً واجتماعياً ومناطقياً، في كل بلد من العالم وان بأشكال مختلفة. في لبنان يجري الاعتراف بالتنوع، لكن فقط من بعد تجريده، تجريده عن المعاش اليومي، وابعاده عن أشكال تحققه وتداخله في الجغرافيا السكانية للبنانيين.
تجديد الشعارات الاصلاحية نفسها هو تحدي التحديات، فالشعارات الاصلاحية التي ينقلها جيل عن جيل كما لو كانت آخر صيحات الموضة الثورية في العالم، لم تعد كذلك، وليس صحيحاً انها لا تزال جذابة، واكثر، من يرفع لواءها مطمئن مسبقاً انها شعارات تطرح كي لا تنفّذ، بل تطرح كي لا تسمع جدياً، تطرح كي تعترض سبيل التفكير بإصلاح ملموس ينطلق من التحليل الملموس للواقع الملموس، ومن مصالح العدد الاكبر من الناس، ومن حقيقة ان الناس في غاية التعدد والتنوع فوق كل ارض. الشعارات الاصلاحية المكرسة لبنانياً منذ السبعينيات هي هي، تحتاج بدورها الى نفضة.