IMLebanon

عن لقمان سليم وسلطةٍ تحترف القتل والإرهاب ودفن الحقيقة

 

جاءت جريمة اغتيال لقمان سليم في سياق عودة جرائم الاغتيال التي كان آخرها اغتيال جوزاف بجاني، مع بقاء الجامع المشترك في كلّ هذه الجرائم وهي قدرة الجاني على التنفيذ بغطاء أمنيّ يتيح له حرية الحركة في الميدان، وبقدرة الجهة الآمرة على تعطيل العدالة وكفّ يدها عن ملاحقة المجرمين، وهذا السلوك مستمرّ منذ بدأت جرائم الاغتيال في لبنان حتى اليوم.

 

شهداء لبنان الذين دفعوا حياتهم ثمن مواقفهم السياسية والوطنية شكّلوا قافلة لا تنتهي، كان في عدادها رؤساء ونواب ومفتون وعلماء وصحافيون وناشطون، لا تزال ملفات التحقيق الخاصة بهم فارغة في دولة لا تستحي من ترك دماء قادتها على الأرض، تدوسها أقدام القتلة الذين غالباً ما تقدّموا صفوف التعازي والرثاء الكاذب.

 

سلطة العجز والتواطؤ

 

في العقود الأخيرة مارست السلطة في لبنان عمليات الاغتيال الجماعية بعد أن أصبحت الاغتيالات الفردية غير كافية لإرواء مشاريع إسالة الدماء، فشاهدنا اغتيال المدن والبلدات، وكانت معركة نهر البارد بخطها الأحمر الذي وضعه أمين عام «حزب الله» حسن نصرالله، ثمّ جولات الاشتباكات في طرابلس وكانت المعركة المفتعلة في عبرا والتلاعب مع «التكفيريين» في عرسال إدخالاً وإخراجاً بالباصات المكيّفة، وكانت نتائج هذا العنف المتنقل استشهاد المئات وجرح الآلاف من اللبنانيين وتدمير الأحياء وتحطيم الاقتصاد.

 

إضافة إلى جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، فإنّ أعمال القتل الجماعية لم تتوقف، ولم تتوقف كذلك «جهود الدولة» وأجهزتها لطمس الحقائق، فكانت جريمة تفجيري مسجدي السلام والتقوى في طرابلس نموذجاً على انتهاك القضاء وسربلة العدالة بقيود التدخلات لتجميد الحقائق ودفنها.

 

جريمة العصر، جريمة قتل العاصمة بيروت، خضعت للمسار نفسه من التضليل وتفكيك عناصر إدانة تواطؤ أهل السلطة، فكانت عراضة استدعاء رئيس حكومة تصريف الأعمال وما رافقها من استنفار طائفي ومذهبي، وإعطاء من هم في حكم المتهمين «حقّ النقض» في أعمال القضاء، وذهاب قاضي التحقيق إلى تجميد أعماله بانتظار ما سيصدر عن المواقع السياسية المتنازعة والمتفقة على دفن الحقيقة.

 

الأنكى من كلّ هذا أنّ أدوات السلطة الأمنية امتلكت الجرأة للاعتداء على أهالي ضحايا جريمة تفجير مرفأ بيروت وانهالت عليهم ضرباً وتنكيلاً لمنعهم من مقابلة قاضي التحقيق فادي صوان، في مشهد يعرّي حقيقة موقفها من هذه القضية ويعبّر عن مكنونات صدر أركانها من الأهالي الذين لم يرتضوا السكوت على جريمة إبادتهم كما يريد المتسلّطون، ليستكملوا حكمهم بدون إزعاج أصوات الضحايا.

 

لعل هذا ما دفع إيان كوبيتش، المنسق الخاص للأمم المتحدة في ​لبنان​ إلى القول إنّه «يجب ألا يتبع التحقيق في مقتل لقمان سليم نمط التحقيق في انفجار مرفأ بيروت الذي بقي بعد ستة أشهر غير حاسم ومن دون محاسبة. يجب أن يعرف الناس الحقيقة».

 

القتل ليس بالتفجير فقط

 

أعمال القتل السلطوية لا تقتصر على تغطية الجرائم المباشرة واختلاط أحزابها بتلاوين الدماء المتناثرة على امتداد خريطة الوطن المنكوب والمنهوب، بل تتعداها إلى القتل الجماعي المفتوح، مثل سوء الإدارة المتعمّد في إدارة التعامل مع جائحة كورونا، واعتماد سياسات أسفرت عن فتح البلد على أعاصير الوباء الآتية من عواصم الانتشار، من طهران إلى لندن، ثم في الأساليب الفاشلة المعروفة النتائج في إدارة الأزمة وفي التعاطي مع الملف الصحي.

 

خطوات السلطة الإجرامية لا تقف عند هذا الحدّ، بل إنّها تقتل اللبنانيين أيضاً بإخفاء الأدوية من الصيدليات وإفقاد المرضى وسيلة الاستمرار على قيد الحياة، ورغم عدم وجود إحصاءات، فإن مئات اللبنانيين خسروا حياتهم بسبب هذه الفوضى وتسليم مافيات التهريب زمام الأمور، ولا شكّ أنّنا سنشهد كوارث أعظم مع استمرار التدهور والتمسك بهذه الإدارة التي تتعمّد تحويل حياة الناس إلى جحيم، فكيف يمكن فهم حرمان سيارات الدفاع المدني من الوقود، بذريعة تقاذف المسؤوليات الإدارية، وهذا ما يجعل مخاطر الموت حرقاً تتضاعف.

 

قوّة الأمر الواقع غيّرت طبيعة السلطة

 

تبرز في سياق هذا النقاش مسألة جوهرية وهي ضرورة فهم إلى التحوّلات التي شهدتها السلطة في لبنان، والتي انتقلت من حالة المساكنة مع «حزب الله» وسلاحه قبل الصفقة الرئاسية التي أوصلت ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، مع ما كان في تلك المرحلة من توازنات وتقلّبات، وانتهت بانتخاب عون وإطباق الحزب على مواقع الحكم، وما تلى ذلك من إخضاع مؤسسات الدولة لهيمنة الحزب باعتباره يمتلك السلطة الآمرة من خلال المواقع الدستورية: رئاسة الجمهورية، رئاسة مجلس النواب ورئاسة الحكومة.

 

ومع هذا التحوّل بات التحكّم بالأمن ثم بالقضاء أمراً تلقائياً، لهذا تضاعفت علامات العجز والتسييس، وتفاقمت ظاهرة إخراج الجيش والقوى الأمنية من دائرة القيام بواجب حماية المواطنين إلى مساحة التحييد السلبية التي تبيح للغوغاء الاعتداء على المواطنين وعلى الأملاك الخاصة والعامة، كما سبق أن حصل في انقلاب السابع من أيار 2008 وتكرّر مؤخراً في طرابلس بشكلٍ مكشوف وفاضح.

 

جرائم القتل السياسية الفردية والجماعية، المباشرة وغير المباشرة، لم تتوقف ولن تتوقف، والسياق الواضح للأحداث يؤكّد أننا دخلنا جحيم الفوضى والاغتيالات، تتقاطع فيها مصالح المجرمين مع مصالح المفسدين، الذين لم يعودوا يمانعون تلطّخ أيديهم بالدماء بعد أن اتخذوا قرار الالتصاق بكراسي السلطة مهما كلّف ذلك من ضحايا أو أثمان.

 

لقمان سليم شهيد جديد على طريق مقاومة مشروع قتل الحريات ورفض الإرهاب والإصرار على الدفاع عن حقنا ببناء الدولة القائمة على العدالة والسيادة غير المنقوصة والتي لا يكسرها سلاح ولا تلوي عنقها تبعيات خارجية.