إستمعت اليوم إلى كلمة غبطة البطريرك، يدين فيها اغتيال رجل الكلمة والموقف الحر، الأستاذ لقمان سليم. وقد أتبع غبطته هذه الإدانة، برفع شعار كنا نثق أنه سيدفع به لا محالة، وهو «تدويل القضيّة اللبنانيّة»، بغية إخراجه من حالة السلاح المتفلت، والسلطة الفاسدة المتواطئة، الحامية له، على حساب كرامات الناس، وإسم لبنان وصورته في العالم. لقد سعى غبطته طويلا، وبطول إناة وصبر، أن يقنع أركان السلطة باستدراك ما فعلوه للبنان وشعبه، وإعادة السير بحكومة، تستجيب للحد الأدنى من مطالب الناس، لكنهم لم يفعلوا، بل كان الرد سلسلة من الإغتيالات كان آخرها إغتيال المفكر الحر الأستاذ لقمان سليم.
لقمان سليم ومن قبله، وكذلك من سيأتي بعده، هم ضحايا متكررة في ذمّة السياديين. فالقتلة لم يجدوا من يواجههم في الداخل اللبناني. فمن جهة فالثورة غلبتها شخصنة المتحدثين عن عذابات الناس ومعاناتهم. توحدت عباراتهم اللاذعة ضد السلطة، وتشتت مطالبهم الإنقاذية. فلم يعرها الرأي العام والمجتمع الدولي أهميّة. ومن جهة أخرى، تضيع مطالب العدالة للضحايا تحت مطرقة الفساد المستتر بحماية حملة السلاح المتفلت ودويلة الميليشيات، وسندان تقصير حملة الراية السيادية، والإكتفاء بالخطابات الغاضبة التي لا تثلج قلوب القتلة فحسب بل تعلمهم الإستزادة.
لم يجرؤ أحد من رافعي الخطابات الغاضبة، بدفع الحدث إلى المواقع الدوليّة للمطالبة بالعدالة. عندما حملوا قضية الشهيد رفيق الحريري وأنهكوا خزينة لبنان هلل العالم لهم فخاف القتلة، ولكن بدلا أن يذهب الإبن الساطع بنجوميّة والده، ليطالب مجلس الأمن باستكمال تحصيل العدالة من قتلة الشهيد، قال اكتفينا بمعرفة الحقيقة، كأنه يتحدث عن دم والده، وليس دم رئيس حكومة لبنان الذي قتل من أجل قضيّة لا تخصه هو كإبن الشهيد، بل تخص لبنان والعالم، لأنها قضية حريّة وسيادة لشعب بكامله. لبنان دفع الثمن من أجل العدالة، وإبن الشهيد رآها مسألة عائلية. ضحك القتلة لأنهم أدركوا أن رائحة دماء الشهيد، ضاعت في عبق الأريج المنبعث من السجاد الأحمر على درج قصر رئاسة الحكومة.
لا حكومة تطالب العالم بالعدالة، ولا مؤسسات مدنيّة تطالب العالم بالعدالة، ولا شعب يفقه معنى المطالبة بالعدالة. تطايرت أشلاء الضحايا في مرفأ بيروت، وقتل العشرات وجرح الألوف وشرد مئات الألوف، ودمرت بيروت بتراثها وإنسانها وكرامتها وتاريخها، فاختبأ القتلة خلف متسلقي سلم السلطة، الذين تلذذوا بلمعان صورهم على شاشات التلفزة، فصاروا يتسابقون في حماية القضاء الوطني بحجة الكرامة الوطنية، الكرامة التي داستها الإغتيالات، والتفجيرات، وظل القضاء الذي اعتبروه عنوان الكرامة الوطنية، ساكتا وعاجزا عن كشفها، أو حتى النطق بكلمة حولها.
عار على إنساننا الذي يعتبر نفسه مفكرا وثائرا ومحررا ومقداما أن يظل أسير قرارات الخارج. لم يجرؤ القتلة لولا الجبن الذي يسيطر على الآخر. أنتم المسؤولون عن اغتيال لقمان. بل لقمان نفسه، مسؤول عن موته. لم يجرؤ هو أو غيره، أن يخرج إلى العالم ليكشف بالوثائق، جرائم السلاح المتفلت. جرائم الحكم وأهل السلطة، فتقوم قوانين قيصر جديدة ضد هؤلاء. ما الفارق بين نظام الأسد ونظام عون؟ الأسد حمل أداة القتل بنفسه، وعون قدم الحماية للقتلة. خافوا أن يقدموا الوثائق والشهادات حول جريمة المرفأ وغيرها إلى الرأي العام الدولي، والدول الأعضاء في المحكمة الجنائيّة الدوليّة، واعضاء مجلس الأمن لماذا؟ لماذا هذا الصمت المريب من رافعي شعارات السيادة، والإصلاح ونظام القانون.
ربما أن دماء لقمان قد أنتجت أخيرا كلمة جريئة من منقذ ترنو له العيون، فرفع غبطة البطريرك أخيرا، مطلب المؤتمر الدولي برعاية الأمم المتحدة، لإنقاذ لبنان من هذه السلطة ومن السلاح المتفلت فيها. فتفضلوا، أيها السياديون، أحملوا أمامه سلاح الصور والوثائق. وقوموا بجولة في العالم الحر. أنقلوا مآسينا إلى العالم. أقيموا معارض مفتوحة في قاعات الأمم المتّحدة وأمام قاعة مجلس الأمن. شاركوا الدنيا بأوجاعنا. إصرخوا من خارج قصوركم وقلاعكم. كفى استهتارا بالناس.