لأن العدالة مغيبة قسراً عن لبنان استمر الاغتيال بدمٍ بارد ولا من حسيب ولا رقيب. ارتكبت جرائم اغتيال كبرى عن سابق تصورٍ وتصميم، وعلى الدوام كان المرتكب شديد الثقة بأن الجريمة ستُقيد ضد مجهول، وأن الإفلات من العقاب هو القاعدة. حتى إن لبنان لم يشهد ولا في أي وقت أي نوعٍ من الملاحقة لجهة متهمة باتخاذ القرار، أو اتهام لجهة محرضة، وبالتأكيد لم يتم إلقاء القبض على متهمٍ بالقتل!
ولأن القطع قائم موضوعياً، بين قانون المحكمة الدولية الخاصة بقتل رفيق الحريري، وآلية التنفيذ اللبنانية، فإن حكم المحكمة الدولية بتجريم سليم عياش لم يأخذ أي طريق للتنفيذ، والحكم مستقبلاً بالجرائم المتصلة التي تأكدت الصلة بها مع جريمة قتل الحريري لن تأخذ الأحكام طريقها إلى التنفيذ، عنيت جرائم قتل جورج حاوي ومحاولتي قتل مروان حمادة وإلياس المر! وبالتالي يستمر الاطمئنان بغياب الرادع!
من الملاحظ أن كل الجرائم السياسية التي كان لبنان مسرحاً لها، منذ محاولة قتل مروان حمادة في عام 2004، حتى قتل لقمان سليم يوم 4 فبراير (شباط) 2021، يجمع بينها أن كل المستهدفين، كانوا من الرافضين لهيمنة «حزب الله» والمناوئين للنظام السوري ومشروع حكام طهران للسيطرة على لبنان والمنطقة. وكل هذه الجرائم كرست الرفض المطلق لحرية الاختلاف في الرأي، وعكست منحى بالغ الخطورة تمثل بالإصرار على تعميم فكرٍ أحادي رافض للتعددية، تم تقديمه تحت مسميات مختلفة، فشكل المظلة التي مورس تحتها القتل والدمار.
رسم هذا المنحى، إلى إلغاء التنوع وشطب التعددية، ممارسات فظة ميّزت الحرب الأهلية، فكان ما بعدها زمن استمرار «الحروب الصغيرة» التفتيتية، وبالتالي «القبول» بحرية تعبير شكلية ومقيدة، بحيث بدا أن رقابة مسبقة احتلت العقول، من نتائجها أن جريمة كبرى بحجم مصير 17 ألف مخطوف ومفقود، منحها لقمان سليم الكثير من سنوات عمره القصير لإبقائها حية ولكي لا ننسى، لم تكن يوماً قضية تتطلب كشف الحقائق المتصلة بها، ولم تنل أبداً الجدية المفترضة، فلم تدرج على جدول الأعمال الحقيقي لمنظومة الحكم، لأن هناك الخطوط الحمراء التي يجب محاذرة الاقتراب منها وهي بالأساس كانت مشتركة بين أكثر من جهة، إلى أن الضغوط بشأن معرفة مصير المغيبين في سجون النظام السوري عجل من قرار الحذف الجسدي لهذا المختلف، لذلك لم تكن تغريدة جواد نصر الله «بلا أسف» خارج السياق، فقد أصبح معلناً التهديد بالقتل: «خليك ع إجر ونص… جاييك الدور»!
لكن جريمة قتل لقمان سليم لها ما يميزها عن كل الجرائم الكبيرة، أنها تمت بعد ثورة 17 تشرين، التي حملت مشروعاً باستعادة الدولة السيدة، وأعادت الأمل للأكثرية عندما رسمت طريق التغيير السياسي لاستعادة الحقوق والكرامات. وتوجت هذه الجريمة القمع المنفلت الذي بلغ ذروته في التعديات على المظاهرات حول المجلس النيابي، وكذلك يوم 8 أغسطس (آب) في مظاهرة التنديد بالتفجير الهيولي الذي دمر المرفأ وأحياء عديدة من العاصمة! ومن بيروت إلى كل المناطق لم تحاسب أي جهة معتدية رغم سقوط الضحايا والتسبب عمداً في إطفاء عيون ما لا يقل عن 100 ناشط سياسي!
قدم هذا المنحى البوليسي – الميليشياوي أكثر من دليل على أن منظومة الحكم التي يقودها «حزب الله»، غير عابئة بالانهيارات التي نجمت عن نهب البلد والناس، ولا من تداعيات الإفلاس والمجاعة والعوز، وأنها ماضية في الاستئثار والمحاصصة وعزل البلد. فمن جهة القصر، لم يكن الحديث عن اعتزام التمديد، أو بالأحرى عدم مغادرة القصر، مجرد بالون اختبار، فقد ترددت معطيات تفيد بأن هذا الموضوع كان دوماً في صدارة اهتمام الرئاسة، فيما يتمسك «حزب الله» بحجز البلد وفق ما تتطلبه أجندة حكام طهران، ما أسقط المبادرات، فيما القوى الأخرى عموماً صامتة أمام سياسات تهدد بتلاشي البلد كلية!
أمام الكابوس أتت صرخة البطريرك الراعي: «مهلاً أيها المسؤولون، لا الدولة ملككم، ولا الشعب غنم للذبح في مسلخ مصالحكم وعدم اكتراثكم»! ليطالب بعقد مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة، لتثبيت لبنان في «أطره الدستورية الحديثة التي ترتكز على وحدة الكيان والحياد وتوفير ضمانات دائمة للوجود اللبناني (…) ووضع حدٍ لتعددية السلاح»، وصولاً إلى سد الثغرات الدستورية والإجرائية تلافياً لتعطيل آلية الحكم.
الواضح أن هذه الدعوة الطموحة تخطت مسألة تأليف الحكومة، لأنهم أعجز عن تأليف حكومة إنقاذ، لتطرح مصير الوطن الذي بات في مهب أجندات خارجية. والأكيد أن أصواتاً كثيرة من جمهور متنوع، يرفع الصوت مطالباً بوضع لبنان تحت وصاية دولية، لأن هناك انسداداً داخلياً وقناعة بأن منظومة الحكم لن تذهب إلى أي حلٍ أو إصلاح لأن مصالحها على المحك! فلا بديل إذن بالنسبة للكثيرين من تدخلٍ دولي ولو لمرحلة انتقالية، يمكن خلالها وضع الإصلاحات الحقيقية على السكة، ويراهن البعض على أن الدعم الدولي قد يتيح رسم سياسة التوزيع العادل للخسائر التي دُفع إليها لبنان، إلى إطلاق الأسس لمتابعة معركة استعادة الأموال المنهوبة وبدء التدقيق الجنائي! لكن بين الطموح والواقع هوة كبيرة!
هنا مع الإقرار بأن العالم ليس جمعية خيرية، فإن التوجه إلى الأمم المتحدة حق وضرورة لأن اللبناني مهدد في حريته ووجوده، ورغيفه مستهدف، وقد تُرك الناس بين فكي الجوع والوباء القاتل. بالتالي فإن إثارة الأمر ضرورة أقله لبناء قضية للمستقبل، مع اليقين بأن تداعيات الانهيار اللبناني لا تؤثر لا في السلم ولا الأمن، لا في المنطقة ولا العالم، ولن تفاقم الخراب العميم في البلدان المهيمن عليها من محور الممانعة. غير أن التوجه إلى المجتمع الدولي، رغم أن العالم ينوء تحت تراجع كل الاقتصادات، نتيجة الجائحة التي بدلت أولويات المعمورة، قد يحفز البحث عن بدائل!
والأكيد أن الطرح الجديد إذا ما احتضن لبنانياً سيحمل إمكانية الحث على البدائل، كخطوات دولية توفر بعض الحماية للبنانيين من هذا الطغيان المنفلت. والأكيد أن ألف باء الحماية النسبية، تكون في الخطوات الرادعة بوجه الطبقة السياسية المتجبرة. وما من شيء رادع أكثر من العقوبات الدولية التي تمس مصالح السياسيين، والأسباب الموجبة متوفرة، فهم شركاء في الاختلاس وغسل الأموال وما من أسرار. وهذا المطلب يكون ممكناً جعله أولوية، إذا ما تم تحويله إلى مطلب عام للبنانيين في الداخل والخارج، ما يضع التحدي الكبير على الحالة الثورية للانتقال إلى بلورة «شبكة أمان» تجمع فعاليات وحيثيات وكفاءات، توفر رافعة تساهم في حماية المواطنين والثورة، وتُظهّر بداية مرجعية سياسية باتت مطلوبة بإلحاح!