لا تبشّر عودة آلة القتل الى الساحة اللبنانية بأي خير. ويبدو ان آخر حلقة من ضرباتها المؤلمة باغتيال الباحث والناشط السياسي لقمان سليم، تشي بأن مسلسل “الحزن والدم” يُستعاد بأجزاء “أقوى”، من جراء انهيار أمني أوصلت اليه هذه السلطة المارقة، بعد السياسي والصحي والاقتصادي والمالي، وكشفت ظهر لبنان، لا بل “سيّبته” وسلّمته الى قوة الأمر الواقع المتمثلة بـ”حزب الله” وسلاحه وسطوته.
ولعل اختيار لقمان لتصفيته غيلة وغدراً بالإغتيال، لم يكن بالصدفة او بـ”القرعة”، إذ انه يستولد علاقة سببية و(ربما شرطية)، بين مشروع الإطباق على البلد وإحكام “القبضة الحديدية” عليه، وبين إزاحة الشخصيات الفاعلة والمؤثرة في معركة الانتفاض على هذا الواقع، وإسكاتها عنوة تحت شعار الغاية تُبرر “المقتلة”!
إغتيال لقمان ليس منفصلاً عن الأزمة التي يعانيها لبنان الوطن والدولة، هي جريمة تدفع نحو المزيد من التدهور والانهيار، لما تبقى من اسس النظام الديمقراطي والهوية اللبنانية لصالح مسار التفلت العام على مستوى الدولة اولاً، وهي جريمة تفتتح مرحلة جديدة من التدهور نحو الأمن المتفلت، بادارة تتسم بالبطش لصالح دكتاتورية تنهي ما تبقى من هامش الحريات الذي يتيح التعبير عن التنوع اللبناني وارادة التغيير التي تلفح المنظومة الحاكمة وتهدد نظام مصالحها ثانياً، وهي جريمة تكشف عجز القاتل عن الفعل الايجابي لكي يستمر ويبقى، فيتجه نحو القتل وبث الرعب كتعبير عن العجز والارباك في مقاربة مآزقه اللبنانية، فيعتمد القتل كوسيلة لاقناع نفسه بأنه الأقوى، وليخفي مظاهر الوهن والضعف التي تطاله ثالثاً.
على وقع هذه الاسباب الثلاثة، وسواها، يشهد اللبنانيون على مسار من الانزلاق السلطوي يستهدف ما تبقى من ارض صلبة يقف اللبنانيون عليها، فالسلطة التي افتُضحت بشكل كامل مع انطلاقة انتفاضة 17 تشرين، افتُضح فسادها وعجزها عن انقاذ نفسها كسلطة، وافتُضح نظام الفساد الذي يقوم نفوذها عليه، باتت اليوم امام استخدام آخر ما تبقى لديها من وسائل تطويع وترهيب للمجتمع، فبعد أن افلست الدولة، فقدت منظومة السلطة احدى اهم وسائل الاستقطاب غير المشروع لمناصريها، وابرز ادوات السيطرة والنفوذ على المجتمع، الا انها لم تفقد السطوة الامنية والعسكرية، لا تلك المتصلة بالاجهزة الامنية والعسكرية من اجل ممارسة العنف على المواطنين فحسب، بل الاستقواء بـ”حزب الله” ونفوذه الامني والعسكري وسلاحه ايضاً.
“حزب الله” أعلن بوضوح عبر أمينه العام ان سقوط منظومة السلطة امر لن يسمح به، وبالتالي وضع نفسه بشكل واضح في وجه كل من يطالب باسقاط هذه المنظومة الحاكمة التي اوصلت الدولة الى ما وصلت اليه. العنف والقتل هما الردّان الوحيدان على كل من يرفع الصوت في وجه هذا الانهيار، وبالتالي فان ما ينتظر اللبنانيين في القادم من الايام، هو المزيد من الترهيب والتهويل ضد كل تعبير حر وموقف يصوب على المسؤول عما هم فيه من ازمات، بهذا المعنى الاعلام الذي جرى تطويع جزء كبير منه خلال السنوات الماضية، سيكون عرضة لمزيد من كم الأفواه، ولعل ما طال محطة الـMTV والزميلة ديما صادق، هو بداية لمرحلة جديدة للقمع، وانهاء لما تبقى من هوامش من الحريات طالما كانت ميزة ايجابية وعنصر قوة للبنان.
إغتيال لقمان سليم رسم مشهداً جديداً للحياة اللبنانية بنسختها المأسوية، وهذه النسخة هي نقيض الهوية اللبنانية التي بقيت صامدة وراسخة، حتى في الحرب التي شهدها لبنان عام 1975، ولم تفلح الاجتياحات الخارجية للبنان في الغائها او طمسها، ظلّت الحريات الاعلامية قادرة على اختراق محاولة خنقها او تقويضها، وهذا ما يشكل رصيداً مهماً في عملية الردّ على سياسة الاعلام الموجّه و”المهذب”.
لقد بات واضحاً ان منظومة السلطة وحاميها “حزب الله”، لا تبشر اللبنانيين بأي شيء، بل تستمر في خنق المجتمع ومحاولة قتل اي فرصة للخروج من الأزمة او لجمها، وهذا يؤكد حقيقة ترسخت مع الايام في وعي اللبنانيين مع كل مظاهر الاحتجاج والثورة والاعتراض، ان مشروع الانهيار والقتل والتدمير بات شديد الوضوح، اصحابه لا يخفون هويتهم، يتبجحون بخياراتهم التدميرية للدولة واقتصادها والدستور والقانون، ولكل ميزات هذا الوطن وشعبه، هذه السلطة وحاميها في مأزق لا يملكان غير آلة الموت، أما الحياة فهي اقوى مهما استفحلت ادوات القتل وتمددت.