ثلاث سنوات إنقضت… والعدالة تنتظر حقيقة بلا أثر
«مسؤولية اللبنانيين مضاعَفة لأن عليهم أن يحموا أنفسهم…». كلام نستعيده للناشط والمفكّر السياسي – وشهيد الموقف غير المهادِن – لقمان سليم. لكن مَن يحمي مَن مِمّن، هنا؟ هي الذكرى السنوية الثالثة لاغتيال لقمان ذات ليل شباطيّ بارد. واليوم بعد ثلاث سنوات على تغييب الحقيقة، ما زالت الأصوات تطالب بالعدالة له… ولكلّ لبنان. فهي ليست المرّة الأولى التي تبحث فيها الحقيقة عن ثقب تطلّ برأسها منه، ولا تجده. المرّة باتت مرّات والمرّات بانتظار العدالة.
«قوّتنا تخيفهم. قتلوا لقمان لأنه كان قوياً وليس ضعيفاً ولأنّه واجههم بالفكر وجسّد كلّ ما يحاولون إلغاءه. هم أقوياء بعضلاتهم أما قوّة لقمان فمختلفة. لكن لماذا تبقى جميع ملفات الاغتيالات عالقة؟ أيُعقل أننا نعيش في عالم بلا عدالة، وألّا يبقى لنا سوى العدالة الربّانية؟». تساؤلات طرحتها شقيقة لقمان، الأديبة رشا الأمير، في دردشة مع «نداء الوطن». وبين غصّة الفقدان والتمسّك بفكر لقمان، «سنبقى متكاتفين ولن نسمح لهم باقتلاعنا أو ترحيلنا أو قتلنا. لن نترك لبنان لمصيره الأسود، هو القائم منذ تأسيسه على الجريمة السياسية. حان الوقت لنطالب بتحقيق العدالة من خلال بناء جهاز قضائي فعّال ومستقلّ وأن ننزع يد السياسة عن القرار القضائي».
سلسلة الاغتيالات السياسية في لبنان لم تستكِن منذ عام 1943 «الاستقلالي». واغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005 وما تلاه لم يزيداها إلّا زخماً. من سمير قصير إلى لقمان ومؤخّراً الياس الحصروني، مروراً بكُثر آخرين جمعهم قاسم مشترك. عمليات اغتيال منظّمة، كما يجمع مناهضو الجهتين، تتشابه بأبعادها السياسية، في ظلّ عدالة مغيّبة ومحاولات مستمرّة لإخفاء الحقيقة. وبغياب الحقيقة، من حقّ من يشاء أن يشكّك ويتّهم قدر ما يشاء.
الحقيقة نعرفها… ولكن
المحامية ديالا شحادة لخّصت في اتّصال مع «نداء الوطن» سير الملفّ منذ اغتيال لقمان حتّى اليوم. فالتحقيقات التي حصلت من قِبَل شعبة المعلومات في الأسابيع والأشهر القليلة التي تلت عملية الاغتيال لا بأس بها، غير أنها توقّفت عند نقطة معيّنة بعد أن انتقل الملف عند قاضي التحقيق الأول بالإنابة في بيروت، القاضي (المتقاعد حالياً) شربل أبو سمرا. «لا نعلم تفاصيل التحقيقات الفنّية لأن القاضي أبو سمرا تكتّم على هذا الجانب. لكنه كان يقوم بتعيين جلسات متقاربة من أجل استدعاء الشهود ومتابعة الإجراءات اللوجستية. تقدّمنا بطلبات مختلفة من دون أن نتمكن من الحصول على إجابات عن بعضها بحجّة سرّية التحقيقات. لكن من المؤكّد وجود خيوط يُبنى عليها شرط متابعتها». شحادة اعتبرت أن الجريمة سياسية بامتياز كون المستهدَف كان صاحب رأي سياسي حرّ ومستقل وهو لم يُستهدف لأسباب شخصية أو مالية. فالملف سياسي، ومن الطبيعي أن تكون هناك ضغوطات سياسية. «لا أسمح لنفسي أن أقول إن هناك ضغوطات سياسية على القضاء طالما أنني لا أملك شيئاً ملموساً، غير أننا نأمل عدم ممارسة أي ضغوطات في هذا الملف لعرقلة الوصول إلى الحقيقة ومحاسبة الجناة، على غرار ما شهدناه في جميع الاغتيالات السياسية في لبنان منذ الحرب الأهلية وقبلها. مع الإشارة إلى أن سير التحقيقات بوتيرتها البطيئة غير محبّذ من قِبَلنا».
كثيرون يتساءلون إن كان سير الملف يتماشى مع المعايير الدولية في التحقيق. لا شكّ أن قدرات القضاء في لبنان هي دون المعايير الدولية تلك، إن لجهة السرعة أو الإمكانيات والموارد المالية والبشرية المتوافرة. فقضاؤنا هو إحدى مؤسسات الدولة المنهارة اقتصادياً، عدا عن المناخ السياسي السائد في البرلمان والذي يمنع سنّ القوانين التي من شأنها ضمان وتكريس استقلالية القضاء، بحسب شحادة. وإذ أكّدت أن الحقيقة التي تقف وراء اغتيال لقمان باتت معروفة، إلّا أن المطلوب إثباتها جنائياً. «لا أعتبره حكماً مسبقاً. فأنا لست قاضية بل فريقاً مدّعياً، وبالتالي أنا منحازة إلى رأيي ووجهة نظري وقناعتي وقناعة القتيل المغدور التي عبّر عنها في الكتاب المفتوح الذي نشره قبل أشهر من اغتياله. لكننا نريد إثبات الحقيقة وتوثيقها جنائياً بهدف المحاسبة. نحن لسنا جماعة تستخدم السلاح للقيام بأي عمل ثأري لكننا نطالب بدولة القانون».
العدالة لم تتحقّق حتى الساعة لضحايا أخطر الجرائم السياسية والمالية والاقتصادية والإرهابية المرتكَبة في لبنان. فهل ستتحقّق في حالة لقمان؟ «يحزّ في قلبي أن أقول إنني لا أعتقد ذلك، لكنني أتمنى وأسعى ولن أتوقف أنا وأهل وأصدقاء ومحبّو لقمان كما كافة المحامين المتابعين لهذا الملف عن السعي لتحقيق العدالة مهما طال الزمن. الأهم ألّا نسمح بتحقيق الهدف من هذا الاغتيال، أي إسكات صوت لقمان والأصوات التي تردّد الأفكار المستقلة الحرّة الشبيهة لأفكاره، ومجابهة ثقافة الإلغاء والقتل الإجرامي»، كما تختم شحادة.
هيمنة قوى الأمر الواقع
من لقمان إلى الحصروني. اغتيالان متشابهان بالشكل والأبعاد. في حديث مع «نداء الوطن»، اعتبر النائب السابق أنطوان زهرا أن الرابط بين كافة الجرائم التي حصلت بعد الخروج السوري من لبنان واحد: إصرار محور الممانعة على تطويع الناس وتخوينهم في حال الرفض، وصولاً إلى تصفيتهم جسدياً من أجل تطبيق المشروع السياسي الاستراتيجي الذي يعتبرونه تكليفاً إلهياً كونه مشروعاً عقائدياً. لكن لماذا لم تصل التحقيقات إلى نتيجة في أي من هذه الجرائم؟ «منذ وضْع اليد السورية على لبنان، سعت الأخيرة بشكل واضح لفرض نظام أمني سياسي غايته تطويع كل اللبنانيين وبشتّى الطرق. هذا النظام استباح القضاء والمؤسّسات وكلّ ما يمتّ إلى الدولة بصلة لزعزعة الاستقرار وعدم السماح للوصول إلى أي حقيقة. من هنا لجأنا إلى المحكمة الدولية عند اغتيال الرئيس الحريري، وذلك لإعلان الحقيقة كما هي لا كما تريدها قوى الأمر الواقع، ولو لمرّة واحدة، رغم أن الإحساس الشعبي كان يعرف جيداً هوية القاتل».
في ما خصّ اغتيال الحصروني، مثلاً، اعتبر زهرا أن «القوات» تمكّنت، بعد أن قامت بشتّى المساعي الممكنة، من سحب الملف وتحريره من سيطرة وهيمنة قوى الأمر الواقع في الجنوب، ما اعتبره خطوة أساسية قد تساعد على إبراز الحقيقة، حتى لو لم يتمّ تحقيق العدالة في ظلّ هيمنة «الحزب» وتقديسه وحمايته مرتكبي جريمة اغتيال الحريري على قاعدة: «نعم قتلناه، وحقّقنا جزءاً من مشروعنا السياسي، والقبضاي يدقّ بالمرتكبين». فما الحلّ إذاً؟ «لا يمكن سوى أن نبقى متمسّكين بالعدالة وأن نسعى لتحرير القضاء من هيمنة قوى الأمر الواقع ومن التدخّلات السياسية، لأنه عبثاً يتعب البنّاؤون ما لم يكن هناك نهج فعلي لتحقيق العدالة».
إبحثوا عن الدولة أولاً
بالحديث عن القضاء، كيف ينظر إلى غياب أو «تغييب» العدالة لبنانياً؟ مصدر قضائي واسع الاطّلاع يقول لـ»نداء الوطن» إنّ لبنان كان قبلة القضاء العربي حيث كان يجري، مثلاً، نشر بعض الأحكام الصادرة عن القضاة اللبنانيين في الدوريات القانونية الفرنسية للامتثال بها. لكنْ حلّت الحرب الأهلية لتُشرذم الدولة إلى فئات، ومعها تَشرذم القضاء وتَفتّت إلى فئات ودخلت عليه السياسة بمختلف أحجامها. «أصبح القاضي مؤتمَناً على مصالح الجهة السياسية التي عيّنته بدلاً من أن يكون مؤتمَناً على العدالة. ولم يكن هناك أي معالجة من قِبَل الإدارة القضائية لإعادة تأمين الحماية المادية والأمنية للقاضي، ما ضاعف استغلال الفئات السياسية له». هذا عن القضاء المحلي. أما ذلك الدولي، فاعتبره المصدر مكلفاً جداً ويتطلّب الكثير من الوقت، كونه ليس نزهة أو مزاجاً إنما حاجة في ظلّ غياب الإمكانيات الداخلية لمتابعة القضايا المتشعّبة والخطيرة. لكنّ ما عرقل عمل المحكمة الدولية هو تبايُن آراء الأفرقاء والفئات اللبنانية – كما الخلافات بين عدّة دول – حولها. «هذا الأمر أدّى إلى وضع مطبّات أخّرت صدور النتائج في مجمل الملفات التي أحيلت إلى المحكمة الدولية. هذا لا يعني أن الأخيرة لم تصل الى أهدافها… فلولاها لكان حصل اقتتال طائفي في لبنان بين فئة وفئة أخرى».
القضاء مشرذَم. وهذا ليس سرّاً. فما السبيل لإيقاف الجرائم السياسية تلك؟ المصدر اعتبر أن المحاكم لا تمنع الجريمة إنما تعاقِب المرتكِب. فالجرائم السياسية هي عقائدية، بطبيعتها، لا يحدّها عقاب، وبالتالي لن تتوقّف ما لم يعد لبنان إلى نظام الحكم الدستوري وإلى مفهوم الدولة. فالدولة حالياً مجزّأة وهناك فئات داخلها أقوى منها ويُمنع على الدولة الوصول إليها. كذلك هناك دويلة تسيطر على القضاء وهناك قضاة انقسموا تبعاً للفئات التي يتبعونها. «لا يمكننا بناء قضاء بعيداً عن بناء الدولة بمؤسساتها ونظامها وقوانينها. كما يجب العمل على تثقيف الناس الذين يفتقدون لثقافة القانون. فكما أن هناك قضاة ينتمون لجهات سياسية، هناك شعب منتمٍ هو الآخر. عندما ننشئ الدولة القوية ونضع حدّاً للزعامات التي هي فوق الدولة، عندها يمكن الحديث عن تحقيق العدالة. لا تبحثوا عن أي حلّ قبل إنشاء دولة ومواطنية»، بحسب المصدر.
نعود إلى شقيقة لقمان. حدّثتنا في معرض كلامها عن كتاب هو عبارة عن حوارات بين الـ»الكريمَين» (كريم بقرادوني وكريم مروّة). كتاب صدر قبل ثلاثة عقود بعنوان: «الوطن الصعب – الدولة المستحيلة». وكأن بلقمان ومن سبقه ولحق به على درب الشهادة، لو قُدّر لهم، يتساءلون: أليس الوطن الصعب والدولة المستحيلة نتاج عدالة غابت عن لبنان ولم يُعرف عنها شيئاً؟