كلام في السياسة
في الورقة الرسمية للمؤتمر المقرر عقده في لندن في 4 شباط المقبل، تحت عنوان “دعم سوريا والمنطقة”، ثمة ثلاثة أهداف محددة بوضوح، أبيض على أسود: الهدف الأول، زيادة المبالغ المالية الممنوحة من الدول والهيئات المشاركة لصالح دعم برامج عدة مرتبطة بأزمة النازحين السوريين.
الهدف الثالث، إبقاء الضغط على أطراف الصراع، لحماية المدنيين المتأثرين بالنزاع والتأكد من كون المجتمع الدولي مستعداً لدعم الجهد من أجل استقرار منسق، “حين تسمح الظروف”. أما الهدف الثاني، وسط الورقة وعقد قبتها والأهم طبعاً، فهو “التوجه نحو الحاجات البعيدة الأمد للذين تأثروا بالأزمة السورية، وذلك عبر خلق فرص اقتصادية وتربوية وفرص عمل. على أن يشمل ذلك طبعاً السوريين الذين لا يزالون في سوريا، والذين نزحوا إلى بلدان مجاورة، كما المجتمعات التي تستضيفهم”.
كل الوضع اللبناني الراهن، أو كل وضع لبنان في المستقبل، قد يكون محشوراً في أحرف مخفية خلف تلك الكلمات المكتوبة ضمن أسطر الهدف الثاني. إنه مؤتمر دولي إذاً، برعاية ألمانيا، الكويت، النروج، بريطانيا والأمم المتحدة، للبحث في الأزمة السورية، على صعد “بعيدة الأمد”. علماً أن بين أسماء تلك الدول ما لا يطمئن. من التاريخ حتى الحاضر. من سايكس بيكو إلى أوسلو وما بينهما من قنوات تفاوض سري على ملفات أسقطت دولاً وشطبت شعوباً وأزالت جماعات. هكذا تبدو الإشكالية الأكثر خطورة، ما يكمن خلف المشكلة المالية المطلوب حلها لمعالجة أزمة النازحين. يقول المؤتمرون إن حاجات مقاربة أزمة النزوح للعام الماضي كانت سبعة مليارات و400 ألف دولار. لم يتأمن منها إلا 3.86 مليار، أي 53 في المئة فقط من المبالغ المطلوبة. ويقدر المنظمون حجم الحاجات للعام الحالي بنحو 8.96 مليار دولار. رقم سيكون عرضة للطحن من جهتين. من جهة الطلب، المقدر أن يكون أضعاف المطروح. وللمناسبة يحكى عن أن الأردن وحده تقدم بورقة يطالب بموجبها بنحو عشرة مليارات دولارات كمنح لمواجهة أزمة النازحين على أرضه… كما من ناحية المانحين، في ظل ركود اقتصادي عالمي وانهيار في صناديق الأنظمة النفطية، مقابل استمرار مسارب الهدر والصرف من الحروب الإقليمية إلى الجيوب العائلية.
هكذا يبدو شبه مؤكد أن تنتهي موازنة مقاربة النزوح للعام 2016 إلى عجز أكبر من عجز السنة الماضية. لكن المشكلة الأساسية تظهر في جانب آخر. في أن الجهد المبذول دولياً هو من أجل تحويل أزمة النازحين الطارئة إلى أزمة مستدامة. إلى مسألة “بعيدة الأمد”. وعلى هذا الصعيد، لا يخفي المنظمون حقيقة تطلعاتهم. أن يتم احتواء نحو أربعة ملايين و390 ألف نازح سوري خارج سوريا، على صعيدي العمل والتعليم، كمجالين أساسيين للانتقال بأزمة نزوحهم من صفة الطارئ إلى وضع المزمن. هنا صلب الموضوع وجوهر المسعى المطروح. كيف يلقي الغرب عن كاهله وضميره هذين العبئين. عبء النزوح صوبه أولاً. وعبء الظروف غير الإنسانية للنازحين في جوار سوريا. لا شيء أكثر. ولا حرف إضافياً. باستثناء عبارة اعتراضية عابرة في طي الورقة الرسمية، عن أن “جهودنا يجب أن تبقي في ذهنها هدف عودة محتملة للاجئين إلى سوريا”! وإزاحة هذا العبء متبلورة بوضوح في فلسفة النص وكل المشروع: أن يؤمن الغرب ما يتوافر من أموال، لإبقاء اللاجئين بعيداً عنه، ولإبقائهم في أوضاع مقبولة بالحد الأدنى، وقابلة للتطور تطبيعاً ودمجاً على المدى الأبعد. ولتحقيق هذا الهدف تم تجنيد كل البروباغاندا الغربية. أكثر من سبعين هيئة دولتية أو غير دولتية مدعوة. وبينها أسماء براقة، من البنك الدولي إلى المفوضية الأممية، وصولاً إلى لائحة طويلة من قطاع خاص وجمعيات غير حكومية شهيرة الاختصاص والمنفعة ذات الصلة.
كل ذلك، بعيداً عن أي إشارة حول الحل في سوريا. مع أن جنيف 3 يفترض أن ينطلق غداً. ومع أن التطورات الميدانية متحركة جداً في مختلف مناطق الصراع السورية، من الشمال إلى الجنوب مروراً بالوسط وشرقها. ما يعني عملياً في المفهوم الغربي، أن مسار التفاوض السوري سيترافق بشكل متزامن مع مسار معالجة أزمة النازحين السوريين. وأن المسارين سيكونان مزمنين، لأعوام طويلة جداً، بحيث يضافان إلى مسار المعارك العسكرية المتحولة هي نفسها، إلى مسار متماد منذ خمسة أعوام، ولخمسيات أخرى ممكنة أو حتى مطلوبة. فحتى يحل العقل الغربي مشكلته مع الإسلام السياسي، وحتى تحل اسرائيل قضيتها مع كونها كياناً غاصباً، وحتى يحل الإسلام نفسه مشكلته مع موضوعات العصر من الديمقراطية إلى الحداثة، ستقوم في جوارنا ظاهرة فريدة من نوعها: حرب ومفاوضات ونازحون في الوقت نفسه. الحرب لاستنزاف أعداء الغرب، والمفاوضات لاستشراف التركيبة الإقليمية التي تناسبه، والنازحون للضغط على آليات الحرب والتفاوض، بما يخدم أهداف الغرب من الاثنين. ولمن يتمنع عن الالتحاق أو يتعنت، ستكون العقوبات الأميركية جاهزة للإقناع مالياً ومصرفياً وسياسياً وحتى رئاسياً.
مؤتمر لندن، قد يكون على تاريخنا أن يحفظ اسمه وتاريخه، للتاريخ…