آخر ما كان يمكن أن أتخيّله في حياتي هو الكتابة عن إقفال «السفير». ولولا الشعور بواجبي في ردّ ما لهذه الجريدة عليّ من جميل، لاخترت الصمت احتراماً لحزن زملائي الذين يكابرون حتى اللحظة الأخيرة. لا تكاد دمعة تنهمر من عين أحدهم، حتى يعاجلها آخر بنكتة تمسحها. صوت الضحك هو الطاغي خلال أيام تمرّ ثقيلة على جريدة تودّع فريقها قبل قرّائها. الكلّ يمزح ويلقي النكات، وهو يعرف أن ما يقوله سيُضحك حتماً، فالضحك آخر المسكّنات قبل أن يذهب كلّ منهم في طريق
«هون جريدة السفير؟»
يسأل إسماعيل حيدر ممازحاً بعد أن يفتح باب قسم المحليات. يضحك الجميع وتأتيه الإجابة: «بقيت تسأل هالسؤال عشرين سنة، إنشالله تكون ارتحت هلق».
كان الفريق قد نزل لتوّه من قاعة الاجتماعات في الطبقة الرابعة. هو الاجتماع الأخير في قاعة «إبراهيم عامر»، الصحافي المصري العتيق الذي يفاخر رئيس التحرير طلال سلمان بأنه كان من مؤسّسي السفير وقدّم لها الكثير مهنياً وشخصياً.
كما يفاخر بأسماء كثيرة مرّت على الجريدة، وتركت أثراً. يعدّ الأسماء واحداً واحداً، ويعيد إليها فضل النجاح «من أصغر الموظفين إلى أكبرهم». يكرّر الحديث عن الفتى الذي كان يقدّم القهوة «واكتشف ذات ليلة خطأ في المانشيت، أنا مدين له بقدر ما أنا مدين لكم». يروي الطرائف التي مرّت على الجريدة، كما المواقف الصعبة مثل محاولة الاغتيال التي تعرّض لها، وتفجير المطبعة، ومحاولات تفجير واستهداف بالصواريخ، وليس انتهاءً بقرار توقيفها عن الصدور في عام 1993. صمدت «السفير» في وجه هذه المحاولات المباشرة لإسكاتها، وربما في وجه محاولات أخرى لا نعرفها، لتقرّر اليوم الموت واقفة. «لم أعد قادراً على الاستمرار، أفضّل أن تنتهي القصة وكراماتكم محفوظة كما كرامة السفير» يقول طلال سلمان للزملاء في أقسام التنفيذ والتنضيد والتصحيح. مهن على حافة الانقراض، وموظفون يدركون صعوبة إيجاد سوق عمل، لكنهم يبدون تفهماً. يُطلب منهم يوم عمل إضافي، فلا يتردّدون في الموافقة.
لكلّ من الزملاء قصته مع الجريدة التي لا تشكل مجرد فرصة عمل. «هي حلم» بالنسبة إلى الغالبية، وهي فيروس يصيب من يتعامل معه، فلا يعود قادراً على الشفاء منه. يبدو الأمر غريباً، الحزن المسيطر يتجاوز فقدان العمل، إلى شعور بالخسارة الشخصية، حتى بالنسبة إلى زملاء جدد لم تمرّ أشهر على انتسابهم إليها.
متى استطاع هؤلاء التورّط عاطفياً؟
قد لا يحتاج الأمر إلى وقت في مكان يحمل كلّ هذه الذاكرة بين جنباته، إذ تزخر جدران «السفير» بعناوينها على الصفحات الأولى، والرسومات الجارحة لناجي العلي. كذلك يسيطر الجو العائلي على مبنى تتعدّد اقتراحات الزملاء الساخرة لاستثماره مستقبلاً. تسأل سعدى علّوه عن إمكانية استئجار إحدى طبقاته، فيأتيها الرد سريعاً: «مع أثاث أو من دونه؟». الردّ جاء من ممثل «الإدارة»، التي تتعرّض للنسبة الأكبر من التعليقات الساخرة. «نريد أن نشرب في الجريدة كلّ ليلة حتى الإقفال، وإذا لم يعجبكم الأمر، افصلونا». يبتسم الإداريون لهذه التعليقات، مستمرين في التظاهر بأن الأمور تحت السيطرة، وكأنهم لم يتسلّموا بدورهم أوراق إنهاء خدماتهم.
ليس صحيحاً أن الإداريين فقط هم الذين يكابرون، لكي يستطيعوا إنجاز عملهم. الكلّ يحاول الابتسام للضيوف الكثر الذين توافدوا في الأيام الأخيرة. من موظفي الاستقبال الذين يحرسون خريطة «الوطن العربي»، مروراً بفاطمة عاملة السنترال صاحبة الذاكرة الرهيبة في حفظ الأصوات كما الأرقام، وموظف الصيانة محمد الجمّال ووجدي موظف المعلوماتية، وكثيرين لا نعرفهم. يتنقلون بين المكاتب، يستمعون إلى كلّ ما يقال، يعلّقون، فيما تحاول عيونهم أن تلتقط كلّ تفاصيل المكان الذي سيبتعدون عنه. فقد أنهت الغالبية عملها قرابة السادسة مساءً، لتبدأ الاحتفالات مع الأصدقاء الذين يزورون الجريدة تباعاً. زملاء قدامى يدخلون ويدلّون على الأماكن التي أمضوا فيها سنوات من عمرهم، فتنهمر الدموع. أما الأصدقاء، الذين شكّلت «السفير» وعيهم، فجلسوا أرضاً يغنون «علّي صوتك»، و»نقيلي أحلى زهرة»، و»أنا توب عن حبك».
كيف سيخرج العدد الأخير في جوّ مماثل؟
الهدوء غالب في قسم العربيات والدوليات، بعد عشاء وداعي. ينهون عملهم وينزلون إلى الطبقة الثانية، حيث الاحتفالات قائمة في قسم المحليات. ينهي حسين أيوب الجزء الأكبر من عمله في البيت. ويهرب إيلي الفرزلي إلى غرفة منفصلة ليكتب موضوعين أحدهما سينشر على الصفحة الأولى. وعندما ينتهي، تحتفل به لينا فخر الدين: «خبأتَ المانشيت للعدد الأخير!».
يستعرض كلّ منهم مواضيعه التي كتبها، بعد أن يحصل عليها من «المركز العربي للمعلومات» (الثروة الحقيقية للسفير)، على قرص مدمج. فيما ينهمك آخرون في الكتابة للعدد التذكاري الأخير الذي سيصدر صباح الأربعاء المقبل. تحتار ملاك مكي في الخاتمة التي ستختارها لموضوعها، أما جوزيت تامر فتحاول عبثاً العمل في ظلّ أجواء الاحتفال القائمة، والمقابلات الصحافية التي تجري مع الزملاء. تجلس سحر مندور أمام الكاميرا مطالبة زملاءها بدعمها، فيما يخرج تعليق «نطرتو حتى نسكّر وقرّرتو تطلعونا ع التلفزيون؟».
في قسم التصوير يتنقّل عباس سلمان بين صوره، يتذكرها بالتفصيل واحدة واحدة. أشهرها، أو «التي أخذت عزّاً»، بحسب تعبيره، لطفلة تحمل في فمها بطاقة هوية.
كانت «السفير» حلماً بالنسبة إلى الغالبية و«فيروس» يصيب من يتعامل معه
«هذه الصورة تعود إلى أيام الاجتياح، كانوا يوزّعون المساعدات بناءً على الهوية». أما مصطفى جمال الدين، الذي تولى في اليومين الأخيرين مهمة التقاط الصور الأخيرة لزملائه، فيدلّ على التغييرات التي طرأت على القسم. يقول فيما يعدّ إحدى الصور للنشر: «كانت هذه الغرفة لتحميض الأفلام وطباعتها سابقاً». فيما يختار فادي أبو غليوم الانسحاب بهدوء. يرفع يده محيّياً الجميع، ويقول: «سامحونا». وتكرّ تباعاً سبحة الزملاء المغادرين. منهم من ينسحب بهدوء مكتفياً برفع يده، منهم من يخفي دموعه، ومنهم من يقبّل الجميع فرداً فرداً وهو يقول «استروا عما شفتو منا». لكن الجريدة لا تفرغ تماماً، هناك من ينتظر التوجه مع العدد الأخير إلى المطبعة، ليتسلّمه.
ماذا بعد؟ لا أحد يريد الجواب عن السؤال المطروح علينا جميعاً. على الأقل ليس الآن. فلنتركهم يحتفلون في ليل أرادوه طويلاً أكثر من أي وقت مضى.