كان ماركس يقول ان الشعوب لا تعرف التاريخ الذي تصنعه. لكن المشهد في ساحة الشهداء يعطي صورة مختلفة، حيث تقود التفاصيل الى الأساس: لامهرب من قراءة أزمة مثل أزمة النفايات في كتاب أزمة النظام. فالحراك الشعبي يوحي في خطابه انه في المسار الصحيح، وربما السريع، لصنع التاريخ بالانتقال من نظام طائفي محكوم بالفساد والمحاصصة الى نظام مدني ديمقراطي قائم على المواطنية خارج القيد الطائفي تعود فيه السياسة الى دورها الطبيعي، وهو فن ادارة شؤون الناس، وتخضع السلطات للمراقبة والمحاسبة. وحراس النظام الخائفون من فتح أية نافذة في النادي السياسي الطائفي والمذهبي المغلق يلجأون الى كل الوسائل لتشويه صورة الحراك الشعبي واختراقه لحرفه عن أهدافه.
ذلك أن الحراك الشعبي فكرة لا تزال أوسع من تجسيدها. ولا شيء أقوى من فكرة جاء وقتها كما قال فيكتور هيغو. لكن نشطاء الحراك يعرفون ان العبور الى نظام جديد في حاجة، حسب أنطونيو غرامشي، الى كتلة تاريخية. والحشد الشعبي، سواء اتّسع أو ضاق كما رأينا مؤخراً، ليس الكتلة التاريخية المطلوبة. فلا ساحة الشهداء هي ميدان التحرير في القاهرة، بصرف النظر عما انتهت اليه ثورة الشباب التي ساندتها واندفعت فيها عشرات الملايين حاملة كل مواصفات الكتلة التاريخية. ولا الحراك يواجه فقط نظام الفساد والمحاصصة بل أيضاً أحزاباً وتيارات ليست خالية من الفساد ولا الديمقراطية مزدهرة داخلها.
ولعل أهم ما أنجزه الحراك حتى الآن هو فرض نفسه كلاعب جديد واجبار اللاعبين الآخرين على سماع صوته وحتى الاصغاء اليه، وإن لم يكن موضع ترحيب بالطبع. ولا جدوى من كل محاولات النظام تزوير هوية الحراك واتهام أكثر من طرف خارجي وداخلي بصنعه. فلا شيء صنع الحراك أكثر من وضع الشباب امام سد طائفي مجاريه المذهبية منفصلة ومحكوم كل منها بزعيم، وسط انسداد الافق السياسي وانفتاح أمراء الطوائف على أكل الدولة وشل السلطة وتجاهل التردي الخطير في الاوضاع الاقتصادية.
والمهمة تراكمية في مسار طويل. فالدور المهم للحراك يبدأ، لا ينتهي، بحل ازمة النفايات وانتخاب رئيس للجمهورية واجراء انتخابات نيابية على أساس النظام النسبي. والامتحان هو في القدرة على التأثير في الانتخابات وبالتالي في اعادة تكوين السلطة. لكن المسألة الملحة حالياً هي ترتيب الأولويات في المطالب، واستخدام الاليات القانونية لتحقيقها، وحماية الحراك من اندساس مشاغبين للتخريب، او ادوات لاجهرة وقوى من اجل التأثير فيه.
ومن يصنع الحاضر هو من يصنع التاريخ.