أدّى تهاوي سعر النفط إلى أزمات مالية للدول المنتجة. بالإضافة إلى العجز في الموازنات والناتج عن قلة المداخيل، أخذت بعض الدول بالإستدانة لسد العجز، وتم تجميد العديد من المشاريع في هذه البلدان. لكن هذه الأزمة أظهرت إلى العلن مشكلة الهيكلية الاقتصادية.
لم يغب عن بال المستثمرين ولا الدول المنتجة ما حصل في العام 2008 حين إرتفع سعر برميل النفط إلى أعلى مستوى تاريخي له متخطياً الـ 143 دولارا أميركيا للبرميل في الثاني من تموز وهبوطه في الثاني والعشرين من كانون الأول إلى 31 دولارا أميركيا.
أسباب تبدّل أسعار النفط تأتي من ثلاثة عوامل إقتصادية رئيسية: العرض والطلب (الإستهلاك والإنتاج)، التضخم في الاقتصاد الأميركي بشكل رئيسي، والمضاربة في الأسواق المالية. يعود سبب الإرتفاع في العام 2008 إلى النمو الاقتصادي الهائل الذي تم تسجيله في ذلك الوقت والذي أطاحت به الأزمة المالية العالمية وسمحت بهبوطه بشكل كبير ستة أشهر لاحقاً.
عوامل جيوسياسية
معطيات اليوم تختلف شكلاً ومضموناً. بعد هبوط سعر برميل النفط إلى 31 دولارا أميركيا في كانون الأول عام 2008، لم ترض الدول المنتجة للنفط وخصوصاً دول الأوبك بهذا السعر بإعتبار أن مدخولها الأساسي هو من النفط.
فعمدت إلى خفض الانتاج مما أدّى إلى إرتفاع الاسعار إلى حدود المئة دولار أميركي، وهذا السعر يناسب الدول المتطورة على الرغم من الضرر على الاقتصاد العالمي، إذ أدّى هذا السعر إلى البدء بإنتاج الغاز الصخري والذي سمح للولايات المتحدة الأميركية بإنتاج النفط والغاز وبدء تصدير الغاز الصخري لأول مرة في تاريخها. كل هذا في ظل غياب أية بوادر لنهوض الاقتصاد العالمي.
في هذا الوقت، أخذت التطورات الجيوسياسية منحى أخر في أوروبا الشرقية بين الغرب من جهة وروسيا من جهة أخرى. تمثلت هذه التطورات في مواجهات سياسية ودبلوماسية تحولت في ما بعد إلى مواجهات عسكرية إنتهت بإحتلال روسيا لشبه جزيرة القرم وشبه إستقلال قطاع جنوب شرق أوكرانيا عن الدولة وفقدان الحكومة الأوكرانية السيطرة على هذه المنطقة.
هذا الأمر أدّى مخاوف وحذر شديد لدى الدول الغربية من أهداف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومن ماكينته العسكرية التي أظهرت قوتها خلال أزمة جيورجيا وخلال الأزمة الأوكرانية. وإصطدم الغرب، خصوصاً الأوروبيين بالعناد الروسي مما أدّى إلى فرض عقوبات على روسيا لم تتخيل هذه الأخيرة أن تداعياتها ستكون مؤلمة ولكنها مع ذلك غير كافية للجم طموح قيصر روسيا.
هنا جاءت الفكرة الأميركية بضرب سعر النفط والذي يُحقق أهدافا عدة في الوقت نفسه :
أولاً: لجم الروس عن أي عمل عسكري عبر ضرب مداخيل الدولة والتي تعتمد بشكل أساسي على النفط. هذا الأمر فعّال جداً في ظل إقتصاد روسي كهل يعيش حالة سبات ويحتاج إلى مئات المليارات من الدولارات من الإستثمارات لكي يستعيد عافيته.
ثانياً: إعطاء دفعة كبيرة للإقتصاد العالمي وخصوصاً الأميركي عبر تخفيض الكلفة الحرارية. وما أجمل هذا الأمر لإقتصاد بدأ في إظهار مؤشرات إيجابية وهو يُعتبر محرك الاقتصاد العالمي.
ثالثاً: السيطرة الجيوسياسية على بعض البلدان النامية وفي طور النمو والتي أخذت تكتشف حقول نفط وغاز في أراضيها ويُمكن لطموحاتها أن تؤدّي إلى حروب إقليمية.
إلا أن كل هذا السيناريو لم يكن ليتحقق لولا موقف المملكة العربية السعودية والتي بدافع عوامل إقليمية لعبت دورها على أكمل وجه وهي التي تمتلك القدرة على سد أي ثغرة في الإنتاج.
الدول المُتضررة
الدول المُتضررة من إنخفاض سعر النفط هي الدول المُنتجة له وعلى رأسها روسيا، المملكة العربية السعودية، الولايات المُتحدة الأميركية، الصين، كندا، إيران، العراق، الإمارات العربية المتحدة، فنزويلا، المكسيك، الكويت، البرازيل، النورويج، الجزائر، أنغولا، كازاخستان، قطر، بريطانيا وغيرها من الدول. يُترجم هذا الضرر بتدنّي قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي كما يُظهره الرسم البياني حيث تتبع أسعار العملات منحنى أسعار النفط.
يتفاوت الضرر على هذه الدول. هناك دول متطورة إقتصادياً كالولايات المُتحدة الأميركية، وكندا وبريطانيا تُعوّض هذه الخسائر بالتوفير على الماكينة الاقتصادية الذي ستحققه نتيجة إنخفاض أسعار النفط.
أما الدول التي تُشكل عائدات النفط فيها الأساس من مدخول الدولة فإنها الأكثر تضرراً وعلى رأسها روسيا وإيران والعراق والكويت وقطر والمملكة العربية السعودية. إلا أن هاتين الأخيرتين تُعوّض هذه الخسارة بواسطة صناديقها السيادية والتي تستثمر بالدرجة الأولى في الاقتصاد الغربي.
بصرف النظر عن مستوى الضرر الذي ستتعرض له هذه الدول، هناك أمر أكيد، ألا وهو زيادة نسبة البطالة في العالم في قطاع النفط. هذا الأمر سيُترجم بألاف الوظائف التي سيتم التخلي عنها. كما أن العديد من المشاريع التي كانت ستوظف مئات العمال سيتم التخلّي عنها ولو مؤقتاً.
الهيكلية الإقتصادية
مما سبق، يُستنتج أن المُشكلة الأساسية تكمن في الهيكلية الاقتصادية التي تتبعها الدول المُنتجة للنفط حيث يتم إعتماد هيكلية تدور حول هذا القطاع وتفتقد إلى التنويع. هذا الوضع يعني أنه، وفي ظل أي أزمة تطال القطاع، يُضرب الاقتصاد لهذه الدول على أصعدة عدة (عجز في الموازنة، نقص في الإستثمارات، زيادة البطالة…) وبالتالي يتراجع نمو الاقتصاد في هذه الدول.
لذا وكدرس أساسي من هذه الأزمة يتوجب على حكومات هذه الدول إعتماد مبدأ التنويع وخصوصاً الدول الخليجية، بالاضافة الى زيادة التجارة البينية بينها بشكل يسمح لها بالحصول على عازل من الأزمات العالمية التي تضربها مباشرة. هذا الأخير يأتي من الإندماج العامودي للدول العربية في الاقتصاد العالمي في ظل غياب أي إندماج إفقي.
الوضع في لبنان
في لبنان، سيؤدّي إنخفاض أسعار النفط العالمية إلى خفض العجز في ميزانية الدول بقيمة 250 مليون دولار هذه السنة. وسيتم توفير ما يزيد على 700 مليون دولار في حال إستمرت الأسعار على ما هي عليه حتى منتصف العام المُقبل. كما أن القدرة الشرائية للمواطن اللبناني ستزيد حكماً نتيجة خفض الكلفة الحرارية سواء في قطاع النقل أو في التدفئة.
تبقى العبرة في كيفية إستفادة لبنان من هذا التوفير وتوظيفه لكي يتم النهوض بالإقتصاد. وبحسب التحاليل التي قمنا بها فإن التوفير الذي سينتج عن خفض الكلفة الحرارية سيسمح بإنشاء معمل كهرباء في لبنان بقدرة 800 ميغاوات. هذا المعمل سيقلّل من النزف الحاصل في قطاع الكهرباء وسيتم الحفاظ على توفير مستمر مع الوقت يسمح بإنشاء معامل أخرى.