منذ سنوات واللبنانيون في انتظار أن تهز الدولة أياديها وأرجلها فضلا عن إرادتها إحياءً لثروة نفطية منتظرة، منَّ الله بها على اللبنانيين في عزّ أزماتهم الإقتصادية والمعيشية المتفاقمة، في وقت كادت المنافذ المالية والحياتية الكريمة ان تُسد بوجه غالبيتهم الساحقة.
منذ سنوات وعملياتُ مباطحةٍ، علنية – سرّية، تقوم قياماتها بين المسؤولين من أصحاب القرار والسلطة الطائلة والقادرة على ضوء خلافات حادة تستهدف تحقيق المغانم والمنافع الشخصية والحزبية والمناطقية ولتذهب المصالح الوطنية العليا دون ذلك إلى الجحيم، ولعل أبرز تلك المباطحات والمشاكسات تلك التي كانت قائمة بين حركة أمل والتيار الوطني الحر وتمثلت شكلياً بالخلافات التي أعلنت عن الأماكن التي يقتضي أن يُبدأ بها، لتكون تلك المربّعات المكانية الجنوبية، أم تلك الكائنة في الأماكن المجاورة لمنطقة جبيل، وكان هذا هو الشكل الذي ظهرت به «المشكلة» إلى العيان، بينما كان الجميع يدركون أن «المخفي» هو الأعظم.
فجأة، ودون سابق إنذار قفز الإهتمام النفطي إلى واجهات الإهتمام والقوننة واتخاذ القرارات، فألف مبروك على هذا التفاهم الثنائي المفاجيء متنازلين عن احتساب الخلفيات والغايات، التي حرّكت هذا الركود والركون وهذا الإجحاف بحق المصالح اللبنانية وحقوق اللبنانيين نتيجة لسنوات الإمتناع عن اتخاذ أي قرار متعلق بقضية الغاز والنفط، كأنما «البحبوحة الإقتصادية» التي نعيش فيها خلال هذه الأيام السوداء تكفينا وتغنينا عن الثروة المفترضة القادمة إلينا نعمة من السماء، ومع هذه المباركة ومع التأييد المبدئي لما حصل ولما يتوقع أن يحصل بصددها، لا يسعنا في هذا المجال إلاّ أن نتساءل: لماذا جاء هذا التفاهم متأخرا كل هذه السنوات التي أضاع فيها لبنان زمنا وفرصا وتنفيذا وتحصيلا لاحقا لثروة تعتبر بالنسبة للبنان ولمستقبل أجياله القادمة، ثروة أسطورية تستأهل كل الإهتمام وكل الإندفاع، وقد عولجت هذه القضية طوال السنوات الماضية ببلادة وبرودة مستغربة وحافلة بالتكهنات والتوقعات والإتهامات.
لئن كان لبنان في أوضاعه الحالية مقطوع الأوصال في مجلس الوزراء الذي يقوده مع الأسف أربع وعشرون رئيس جمهورية، متشاكسين متخاصمين متعارضين، فجاء التفاهم بين رئيسين منهم، برزا إلى الساحة وحيدين لا شريك لهما في القرار المبدئي، ويقال أن رئيس مجلس الوزراء الذي يقوم في هذه الأيام العصيبة مقام رئيس الجمهورية بالشكل دون المضمون، قد كان أحد الأفرقاء المحرّكين لهذا الملتقى الثنائي بعد أن اشتدت الأخطار على المال النفطي العام الذي ما زال في موقع التوقع والإنتظار، وهو قد قام بهذا الدور على ما يبدو، نتيجة لتحذيرات ونصائح دولية وإقليمية، دفعت به إلى التحرك إنقاذا لما يمكن انقاذه من بقايا ثروة نفطية، ربما يكون لبنان قد خسر منها حتى الآن أجزاء هامة من خلال أطماع وممارسات اشتركت بها دول مجاورة أنهت كل ما هو مطلوب منها من إعداد وتنفيذ، وإن إسرائيل «شريكتنا» في هذه الثروة الهابطة علينا وعليها من السماء، قد باشرت بالإنتاج والتسويق، بل وإن اتفاقا استراتيجيا ضخما قد قلب أوضاع العلاقات التركية – الإسرائيلية رأساً على عقب: فكان موضوع الغاز والنفط المكتشف في طليعة الإجتماعات والمصالحات والإتفاقات التركية – الإسرائيلية المستجدة.
بعد المستجدات الثنائية الدراماتيكية الناتجة عن اجتماع فريقيها لدى الرئيس برّي، البعض يتساءل: لئن كان متعذرا على مجلس الوزراء أن يشارك بكل فئاته وجهاته في اتخاذ مثل هذا القرار المبدئي المصيري، لماذا لم يتمثل رئيسه (القائم مقام رئيس الجمهورية) في إجتماع الإطلاق والإعلان واتخاذ الخطوات الإعدادية، ولماذا لم يتمثل وزير الطاقة في اتخاذ هذا القرار حتى ولو كان قرارا إعداديا تنتظره إجراءات تنفيذية في مجلس النواب والوزراء. مجرد تساؤل متحفظ، بانتظار أن تتضح دوافع هذه الخطوة المختزِلة والمختزَلة؟ وبانتظار إتمام الخطوات القانونية المطلوبة لتحقيق عملية الحفاظ على ثروة منتظرة هبطت علينا من السماء، وبانتظار أن تعمم مسؤولية اتخاذ القرار على كل الجهات والفئات ذات العلاقة المباشرة.
في مطلق الأحوال، لا يخفى على أحد أن الصراع الذي كان قائما (وربما لا يزال) حول الموضوع النفطي، كان يخفي شؤون وشجون البلاد التي ما فتئت تغوص في أجواء المصالح والمنافع، وقد ثبت ذلك في صغير الأمور وكبيرها، ولنا في موضوع النفايات التي ما زالت تجرجر «أخبارها المشرقة» حتى الآن، «خير» دليل على مدى التردي الحاصل في الضمير العام لهذا الوطن المنكوب، إضافة إلى جملة من الفضائح التي ملأت وما تزال أجواء البلد، دون أن ننسى أحدثها في التداول المتمثلة بموضوع الإنترنت. ورغم كل ما ذكرناه فإننا نبارك ما حصل على أن تكون عملية الإختزال في التمثيل واتخاذ القرار، مجرد خطوة ناقصة تستهدف خيرا عاما مجردا عن المآخذ والنواقص، وربما ما أعد حتى الآن من قبل اللجان المختصة، فيه بوادر أمل في تحقيق الشفافية المطلوبة لإتمام هذا الإنجاز المنتظر بأقل مآخذ ممكنة، كالتي اعتدنا أن نراها ونلمسها في صغير الأمور وكبيرها، لعل الإنجاز الكبير في حال استكماله «على خير وسلامة» يمثل في واقع الأمر إنجازا وطنيا سيقلب أوضاعنا الإقتصادية والمعيشية رأساً على عقب، على أمل ألاّ يُشوّه كالعادة بفعل الفاعلين والمشوهين، سلامة كل تصرف بالمال العام تهبّ إليه المطامع وتحيط به رغبات جامحة إلى مقاسمة الدولة والشعب والمصلحة الوطنية العامة في كل المنافع الناتجة عن أعمال ذات جدوى اقتصادية، كائناً ما كان حجمها وصعوبة تحصيل نتاجاتها وخيراتها. إن عملية البناء الوطني المنتظر والمنطلقة من قاع المأساة اللبنانية، تحتاج إلى الكثير الكثير، والوطن يحتاج إلى كل جنى الثروة المنتظرة، وهو يرفض أن يشاركه فيها أيُّ طفيلي يلعق ثرواته من قلب الإنتاج الوطني المنتظر، وهو بعد الآن، بكل مقوّماته الشعبية وصحوته التي بدأت تستجد… سيكون في موقع المراقبة الحادة والجادة، كما سيكون بالمرصاد، لكل خلل وكل شبهة