لكل 100 شخص في لبنان 30 قطعة سلاح
لا، لسنا نجلد حالنا إذا قلنا أننا في غابة لا رأفة فيها بل غالبية من فيها باتوا «ثعالب» لكن أغبياء، يتباهون بمسدس على الخاصرة، ويعبّرون عن حنقهم وعن فرحهم ليس ببيت شعر بل بطلقة تطير في الهواء وتغط في القلب وتدمر القلوب والأحلام والعمر. هو السلاح المتفلت، الطائش أحياناً، والموجه إلى الصدر غالباً، فهل نحن في وطن أم في مزرعة أم في قبر مساحته 10452 كيلومتراً مربعاً؟
بلال داغر وحسين أبو ريا آخر القتلى بالرصاص المتفلت وليسوا آخر من هم على لوائح هذا النوع من الموت. لم يمت الشابان قضاءً وقدراً بل عمداً. فكل من يطلق رصاصة مشروع مجرم. ويا لهول عدد المجرمين في بلدنا المشرّع على السلاح المتفلت تحت عناوين كثيرة. نراجع أسماء من غادروا على عجل، بلا «عطسة»، فنرى الصغير جداً والكبير جداً وشباب وشابات باتوا ذكرى. نقرأ في الأسماء: تاتيانا واكيم، موسى حوماني، مها السيد، رامي البعريني، روي حاموش، رؤى مظلوم، تايونا الصراف، لقمان سليم، جو بجاني… واللائحة تطول وتطول.
في كل مرة، نطوي الصفحة ونعود ونفتحها على اسم جديد. هناك من يقول السلاح المتفلت ثقافة في محيطنا فكيف إذا زاد على ذلك غلبة الشعور بأن لا رادع في «دولة» تعطي لحملة السلاح ألف حجة وحجة وتُرخص الى حامليه تحت ألف ستار وستار. فالسلاح مقاومة. هذا ما يتردد. وكل من يحمله «يقاوم» به بأسلوبه مقتنعاً أن «السلاح على خاصرته زينة الرجال». لا، السلاح مذلة وهو عبثي خارج إطار القوى الأمنية الرسمية وحدها. فلا للسلاح في لبنان تحت أي حجة.
أين القَتَلة؟
بلال داغر مدير أعمال وديع الشيخ مات. قتل بسلاح متفلت. والمطرب اعتبر موته فاجعة. وأصدقاء الميت رثوه وحكوا عن خصاله الحميدة ووصفوه «بالخيّ والطيّب والآدمي». إمتلأت صفحات السوشال ميديا بخصاله. لكن، أين القاتل الذي كان مسلحاً بـ»زينة الرجال»؟ قاتله كما قاتل تاتيانا واكيم، الصبية الجميلة الحالمة، وقاتل روي حاموش، الشاب النابض ذكاء، كما قاتل مها السيّد، الأم لأربعة أطفال كبيرهم في التاسعة… حرّ طليق. قاتل بلال داغر وحسين أبو ريا هو عبد اللطيف سعد أبو خشبة. القاتل فار من وجه العدالة. قبله فرّ كثيرون من القتلة الذين أردوا كثيرين بسلاح متفلت أو برصاصة طائشة وانتهت قضاياهم عند حدود: البحث والتحري.
وماذا بعد؟
هناك كثيرون يتكلمون عن السلام ويسهبون في الدفاع عن «عناصره» لكن، ألم يملوا بعد؟ ألا يعترفون بفشلهم في دولة هي فاشلة؟
رئيس حركة «السلام الدائم» في لبنان فادي أبي علام مضى عليه يتحدث عن «داء السلاح» منذ العام 1986 لكن ما زال الناس يتساقطون مثل العصافير في الغابة اللبنانية. هو ما زال يتذكر جيداً ما حصل في تموز من العام 2002 يوم حمل إبن الجنوب أحمد منصور سلاحه الرشاش وقتل من قتل في صندوق تعاضد المعلمين في محلة الأونيسكو في بيروت. كثيرون لم ينسوا بعد «مجزرة الأونيسكو» تلك التي أعدم فيها القاتل ونقطة على السطر. فالدولة «من زمان وجاي» تعود وتتنازل عما يجب ويفترض ويلزم. لا بديهيات لديها سوى الفساد.
نعود الى فادي أبي علام لسؤاله عن «السلام الدائم» المنشود. نسمعه يتحدث عن الأمن الإنساني. نسمعه يتحدث عن سبعة عناوين لازمة في الدولة لتُعدّ دولة وهي: الأمن الصحي والأمن الإقتصادي والأمن الإجتماعي والأمن البيئي والشخصي والسياسي… نسمعه يتكلم فننتقل بالفكر الى ما نعيش وما نقاسي. فأي أمان نحن فيه؟ وأيّ معايير نتبع ونعيش في دولة نشحذ فيها الدواء والصحة والهواء النقي ومالنا من البنوك؟ نحن في انهيار كلي شامل وما حدث منذ يومين مع بلال داغر وحسين أبو ريا تكملة.
يقول أبي علام: «أمننا الشخصي مفقود. فالإصابات بالسلاح المتفلت جاوزت 80 حالة، وبعيد إغتيال الرئيس رفيق الحريري الى العام 2017 إنتقلنا من 700 ألف قطعة سلاح بين الأيادي الى مليون و700 الف قطعة. وأصبح رقم لبنان على لائحة الدول التي يملك ناسها السلاح الفوضوي رقم 7. فلكل مئة شخص في لبنان 30 قطعة سلاح. فهل تتخيلون؟ ونحن نسمع تلك الأرقام نتحسس مراراً أجسادنا خشية أن تقتحمها في لحظة ما رصاصة طائشة ونصبح، كما كثيرين، في خبر كان.
لماذا كل هذه الفوضى المستشرية؟ يجيب رئيس «حركة السلام»: «هناك عوامل عدة دفعت في ذلك الإتجاه بينها العادات والتقاليد، فقرى وبلدات كثيرة يهدي ناسها السلاح للأولاد، رشاش أو مسدس، في المناسبات، واضعين في العقول أنها دلالة رجولة. ويخبرونهم أن البطولة مرتبطة بالعنف والسلاح. وهناك أمرٌ آخر، هو أننا نحيا مع الخوف والقلق ونخال أننا ذاهبون حتماً الى حرب وشيكة، ومنطق الحماية الذاتية يفترض أن يسود. كما أن السياسيين يتحدون بعضهم بالخطابات ويعززون منطق القوة مطلقين كلاماً مثل الرصاص. وهذا ما جعلنا قوم نعبّر عن مشاعرنا بالرصاص بدل الشعر والرسم والفن. حين نغضب نطلق الرصاص وحين نفرح نطلق الرصاص. هكذا كثيرون يفعلون تعبيراً عن حالاتهم النفسية «بقرقعة» الرصاص. هؤلاء يطلقون الرصاص في الهواء ولا يبالون على من سيسقط، على إنسان تنتهي حياته هنا، على محطة وقود ستشتعل، على صفائح طاقة شمسية ستخرب، على حرش سيشتعل… لا همّ لهؤلاء سوى إطلاق مكنونات مشاعرهم بطرق فيها جهل وشرّ. فهم العظماء والأقوياء والأولون والوحيدون وما عداهم لا شيء أبداً. لا يبالي هؤلاء القتلة الجهلة بما فعلت أياديهم ويطمئنون الى «اللادولة».
مشروع مجرم
يجهل أو يتجاهل حَمَلة السلاح المتفلت إحتمال خراب بيوت الناس وقتل الأحباء، وكل واحد يحمل سلاح متفلت هو مشروع مجرم مع وقف التنفيذ. دولة السلام هي دولة القانون وكم نحن بعيدون عن هكذا مفهوم ودولة.
لكن، ماذا عن الضوابط في بلادنا؟ أليست هناك في العادات بعض الضوابط الأخلاقية؟ يجيب فادي أبي علام: «الضوابط يفترض أن يضعها الناس قبل الدولة. لذا، فلنسأل عن المخاتير والبلديات والسياسيين، ماذا فعل ويفعل هؤلاء للجم السلاح المتفلت؟ المخاتير يعرفون في الضيّع كل واحد يحمل سلاحاً ويطلق الرصاص تعبيراً عن مشاعره، لكن بدل أن يرشدوه ويشيرون إليه يتماهون معه لأنه وجماعته صوت في صندوقة الإقتراع. والأسوأ من كل ذلك، أنه حين يوقف مجرم اطلق الرصاص يتدخل «القادرون» لإطلاق سراحه. ويقول: سألت مرة نائباً لماذا عملت على إطلاق سراح مجرم؟ أجابني: لأنني إستيقظت صباحاً فوجدت في بهو منزلي ثلاثين مختاراً ورئيس بلدية يطالبونني بالعمل على ذلك.
لا تربية وطنية مثلى في بلادنا. إنهم يضعون في الكتب سخافات ويمحون الضرورات. فليس في تلك الكتب ما يؤشر الى إجرامية حمل السلاح المتفلت. ويا ليت من يرسلون «كارت» عرس يضعون في أسفله: نوماً هنيئا لأطفالكم، يكتبون أيضاً: ممنوع حمل السلاح. فأكثر حوادث الموت بالرصاص الطائش تحصل في الأعراس. ويا ليت المدارس يرسلون مع الـ circulaire الدوري مذكرة الى الأهالي بوجوب الإمتناع عن استحواذ السلاح».
أفكار كثيرة يطرحها رئيس «حركة السلام» لكن الكلام شيء والواقع شيء آخر. ألم يدفعه ذاك الواقع الى الإستسلام والقول «فالج ما تعالج»؟ يجيب: «نحن ملتزمون بواجباتنا ونثق أنه حتى ولو قرأ ما نتحدث عنه 10 في المئة من «القتلى مع وقف التنفيذ»، نكون قد ساهمنا إيجاباً في الحدّ من ظاهرة أصبحت ثقافة لدينا».
لا، نحن لسنا اولاد ثقافة الموت بل نحن اولاد الحياة. لا، نحن لسنا مع السلاح إلا مع الدولة. لا، نحن لسنا مع أي طلقة رصاص تنهي حياة إنسان تحت أي حجة.
وكأننا نتكلم في واد ليس فيه إلا الصدى.
وماذا بعد وبعد؟
سألت وئام وهاب يوماً عن «السلاح بين الأيادي» فأجابني: ليش إنتي ببيتك ما في سلاح؟ عبثاً حاولت إقناعه أن لا سلاح معي ولن أحمله مطلقاً. وئام وهاب كما كثيرون من السياسيين قد يعتبرون أن الأمر عادي أو أصبح عادياً ومن هنا تبدأ الحكاية. في كل حال، الدولية للمعلومات كانت قد ذكرت في إحصاء أجرته أن 81 قتيلاً قضوا خلال الأعوام 2010 الى 2021 بالرصاص الطائش وهناك 169 جريحاً آخرين. أي ما معدله 7 قتلى سنوياً و15 جريحاً. وقانونياً، لمن لا يعرف، يُجرّم الفرد الذي يطلق الرصاص في الهواء ويعاقب بالسجن من 6 أشهر الى ثلاث سنوات، وقد تصل العقوبة الى الأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات وبغرامة تتراوح بين 20 الى 25 ضعف الحد الأدنى للأجور. لكن، هل هناك إحصاء بعدد من جُرّموا وتمت محاسبتهم؟ طبعاً لا. إستسهال الجريمة هو القاعدة وما حصل قبل أشهر، في عين الرمانة، مثال. فالسلاح عامَ في الشوارع فهل أوقف مع يحملون القذائف ويوجهونها على البيوت؟ وحدهم شباب عين الرمانة تمت محاسبتهم أما القتلة فاعتبروا ضحايا. فنحن في دولة أشبه بمسلسل «الهيبة» واقعياً أما نظرياً فلا هيبة فيها.