لفتني في الآونة الأخيرة الحديث عن قيام الرئيس بشار الاسد بإقرار موازنة بصفر عجز، في دولة عانت على مدى سنوات من حرب مدمرة طاحنة، ويجري الحديث عن قيام الاسد باسترداد أموال من رجال أعمال متهمين بالفساد، والقيام بحجز أموالهم لمصلحة الدولة، وبصرف النظر عن صحة الخبر أو مدى ارتباطه بتصفيات داخلية، إلّا انّ هذا يعيدنا جدياً الى التفكير في قانون استرداد الأموال المنهوبة الذي قدّمه «تكتل لبنان القويّ» ومدى أهمية هذا المسار لإرسال إشارات جدية بإطلاق عملية مكافحة الفساد في لبنان.
انّ استعادة الاصول المسروقة هي معركة تقودها اليوم الدول النامية في إطار إعادة بناء الثقة، وقد طرح المجتمع الدولي إطاراً جديداً لتيسير تتبع الأصول المنهوبة من خلال الممارسات الفاسدة وتجميدها ومصادرتها وإعادتها إلى بلدانها الأصلية، وذلك فى فصل كامل باتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، حيث عرّفت الاتفاقية إعادة الأصول بأنّها مبدأ أساسي من مبادئ الاتفاقية، والدول الأطراف مطالبة بأن تقدّم لبعضها بعضاً أكبر قدر من التعاون والمساعدة في هذا الصدد.
عملية استرداد وإعادة الأموال العامة المسروقة يعتبر انتصاراً قوياً في أيّ معركة ضدّ الفساد. أولا، ترسل إشارة قوية إلى أن الفساد لا يدوم وأن العواقب ستتبع من يسرقون، وثانياً، يسمح باستخدام الأموال المسروقة لصالح الناس والخزينة العامة، ونحن في لبنان بأمسّ الحاجة الى تقليص الدين العام وتخصيص أموال استثمارية لتحريك العجلة الإنتاجية.
سجّلت بعض الدول نجاحاً في مسيرتها لاسترداد الاموال المنهوبة، ففي الجزائر هناك أوامر حبس أودع بموجبها رجال أعمال ومسؤولون سياسيون السجن بتهم الفساد وتبديد أموال عمومية، قدّرها اقتصاديون بمئتي مليار دولار خلال فترة حكم بوتفليقة للجزائر وتتوقع استعادة 200 مليار دولار، حيث أن رجال الأعمال الموقوفين كانوا يعملون تحت غطاء سياسي سهّل لهم توسيع نشاطاتهم وتلقّي تحفيزات.
وحرّكت الجزائر طلبات دولية عبر إنابات قضائية لبلدان، إمّا تحتضن فارّين أو حسابات بنكية مشبوهة، إذ توجهت بطلب إلى الحكومة اللبنانية لتسليم وزير الصناعة السابق عبد السلام بوشوارب، كما وجّهت مذكرة إلى الحكومة الفدرالية السويسرية بخصوص بيانات مصرفية مشبوهة.
مثلاً نجحت تونس فى استرداد نحو 29 مليون دولار من حساب مصرفي في لبنان كان على ذمّة ليلى الطرابلسي زوجة الرئيس المخلوع بن علي. كما استعادت السلطات التونسية يختاً فاخراً كان محتجزاً في إحد الموانئ الإيطالية، يملكه ابن شقيق الرئيس التونسي السابق، ويقدر ثمنه بأكثر من مليون يورو. كما نجحت تونس فى تجميد أرصدة وعقارات تابعة لعائلة بن علي في دول أوروبية من خلال سفاراتها فى الخارج. فعلى الرغم من العراقيل الشديدة والمتعلقة بعملية استرداد الأموال، إلّا أنّ تونس نجحت فى إعادة جزء من أموالها.
ولا بدّ من الإشارة الى التجربة النيجيرية التي نجحت باستعادة 1.9 مليار دولار، حيث استعانت الحكومة النيجيرية بخدمات مكتب محاماة سويسري يدعى «مونفريني وشركاه» من أجل تعقب الأموال النيجيرية فى الخارج.
كلها تجارب تثبت انّه اذا وُجدت النية الفعلية في المحاسبة وتقديس المال العام والإصرار على استعادة حق الدولة من الذين يستغلون السلطة لنهب المال العام، قد يتمّ تسجيل انجازات في هذا المجال.
وعقلية استعادة الأموال المنهوبة لا تتعلق فقط بالحسابات الخارجية والسرقات الواضحة، إلّا أنها تتعداها الى الكثير من الامور، حيث يصبح حق الدولة واضحاً في الارباح التي تتحقق، والتي تتغاضى الدولة عن تحميل اصحابها ضرائب لقاء الأرباح، مثال على ذلك الاملاك البحرية التي تعود للشعب اللبناني، ولكن استثمارها لا يتمّ تكليفه ضرائب واقعية، بينما تتمّ ملاحقة المواطن والصناعي والمزارع بضرائب مرهقة تزيد من تشنج الدورة الاقتصادية اكثر فأكثر، حقّ الدولة في الكسارات والمقالع، وفي استثمار ايّ معلم سياحي، كلّها أموال ضائعة اختارت الدولة طوعاً التخلي عن حقها فيها.
وكنت اقترحت عبر الموازنات المتلاحقة ما يُعرف بالـ WIndfall tax هي ضريبة مباشرة لمرة واحدة فقط تفرضها الدولة على عقود الشركات التي حققت أرباحاً غير مبرّرة نتيجة عقود غير عادلة، المساحات المردومة، ارباح الهندسة المالية، عقود النفايات، الخ، لأن الثروات التي تم تحقيقها في لبنان بسبب عقود احتكارية طائلة ولا تعد، بسبب امتيازات اعطيت لشخصيات مقربة من السلطة واضحة للعيان، وهذه لا تدخل في اطار الأموال المنهوبة، إلا انها من دون شك تخضع للمساءلة.
كانت حكومة مارغريت تاتشر إحدى أبرز مستخدمي هذا التكتيك. عام 1981، قدّم آنذاك المستشار جيفري هاو ضريبة خاصة على الميزانية لجني حوالى 400 مليون جنيه استرليني من البنوك ، والتي كان يُرى أنها استفادت من الركود لتحقيق ارباح.
وعام 1997، استهدفت المرافق التي تمت خصخصتها، وثبت أنها حققت أرباحًا «مفرطة». حيث تمّ تكليف ضريبي حوالى 5 مليارات جنيه استرليني من شركات بما في ذلك BAA و British Gas و British Telecom و Powergen تمّ احتساب قيمتها على أساس الأرباح، وتم طرح القيمة السوقية عند التعويم. ثم اضطرت الشركات إلى دفع 23٪ من هذا الرقم إلى الخزينة على دفعتين، مع استخدام الأموال لتمويل برنامج العمل الجديد.
نرى ممّا تقدم ان الدول لا تفرط بحقوق شعبها لخدمة فئة من المحظوظين، فإن كان عبر الاسترداد المباشر للأموال، وان كان عبر تكليف ضريبي لمن يستفيد من احتكار لتحقيق ارباح، وان كان عبر من يستغل مرافق الدولة لتحقيق ارباح او من يستفيد من عقود خيالية بسبب قرارات سياسية دون مناقصات شفافة، والأهم كلّ من يحاضر بالعفاف، علماً انه يعرقل قانون الحق في الوصول الى المعلومات ويتفرج على مشروع قانون مقترح للشفافية المطلقة والبيانات المكشوفة وكأنه فيلم مصري طويل ومملّ!
إن جمعنا أموال من كل هذه الحالات، فهل يبقى العجز على ما هو عليه؟ وهل نضطر الى البحث بالمكبر عن بضعة قروش من هنا ومن هناك لسدّ العجز؟