سينشغل اللبنانيون قريباً بعملية سياسية كبيرة، هي تشكيل الحكومة الأولى في عهد الرئيس ميشال عون. لكن القوى السياسية الكبيرة ستنشغل بالمقاصّة الإلزامية لمرحلة انتخاب الرئيس، لمعرفة حجم الأرباح أو الخسائر.
وهي مقاصّة ستظهر خسارة قاسية جداً للبعض، وخسارة ممكن تحملها للبعض الآخر، وخسارة غير قابلة للتعويض لقسم ثالث. وهي الخسائر التي توجب على أصحابها إجراء مراجعة، وإلّا فسنكون كمن يصر على ضرب رأسه في جدار بعد جدار.
اللاعبون الكبار في لبنان، الذين يمثلون قواعد تمثيل سياسي ــــ طائفي، هم: كتلة شيعية تقودها حركة أمل، فيما لا يزال حزب الله نائياً بنفسه عن «المسألة اللبنانية»، بينما تضاءلت إلى حد الغياب كل قوى شيعية أخرى. والأصوات المنفردة، لا تشكل فعلياً الوزن المناسب لضمها إلى المشهد. وهناك، أيضاً، كتلة سنية كبيرة أيضاً، يقودها تيار المستقبل، وتنافسه في ساحتها قوى لا تزال تمثل منفردة عنصر ضغط أكثر مما تمثل عنصر تغيير. تماماً كما هي الحال عند المسيحيين، حيث تظهر «القوات اللبنانية» وريثاً غير شرعي لحزب الكتائب الغارق في عملية استنساخ لخلايا لا روح فيها. بينما ارتمت الشخصيات والقوى الصغيرة في أحضان الأحلاف الكبرى، بحثاً عن مكسب، غالباً ما يكون من الفتات.
وتبقى الكتلة الدرزية التي لا تزال الزعامة الجنبلاطية هي الأقوى نفوذاً وتأثيراً فيها، بينما تشظت الأصوات المعارضة له، ما يجعلها قوة مشاغبة لا قوة منافسة.
اليوم، تعرض الرئيس نبيه بري لعملية غش كبيرة، فمنعته المعطيات بين يديه من الرؤية الواضحة. وجاء تصويته بالورقة البيضاء أقرب إلى احتجاج، لا يعطل قراراً كبيراً بانتخاب عون. ورغم إدراكه، بقوة، أن العناصر المحلية ظلت هي المتقدمة على أي عنصر خارجي في هذه العملية. إلا أنه أصر على وجود تسوية خارجية، في خطوة أظهرته رافضاً لفكرة أن قوى محلية يمكن أن تتشكل وتكون قادرة على إنتاج واقع جديد. وهذا المنطق يجعله أكثر شراسة في مرحلة تأليف الحكومة. وهو، هنا، لن يتكل على قدرات غير معلومة لتحصيل مكاسبه، بل سيتكل، حصراً، على حليفه القوي حزب الله لانتزاع التزام بحقوقه، تماماً كالتزام الحزب انتخاب عون.
وإذا كانت المعطيات المحلية قد تتيح لرئيس المجلس تحصيل غالبية مطالبه، إلا أن المشكلة ستبقى في رفضه إجراء التقييم الذي يجب أن يقوده إلى تحديد نقاط الخلل التي لا يقتصر ضررها على شعبيته فقط، بل على مكانته في قلب معادلة الحكم. وهذا هو التحدي ــــ لا الجهاد ــــ الأكبر أمامه. علماً أن في يده السلاح الأمضى، إذا قرّر، فعلاً، ترك الحكومة والتفرغ لأكبر عملية مراقبة ومحاسبة للحكومة من خلال المجلس النيابي.
في جانب آخر، ليس واضحاً متى ستطلق السعودية سراح الرئيس الحريري وتحرّره من قيود لم تعد تؤثر فعلاً في خطواته المحلية. وهو عندما قرّر اللحاق بركب عون الرئاسي، لم يبق من دفتر الوصايا السعودية سوى عبارات وجمل يوردها في بياناته ومواقفه، تركز على نقد حزب الله. علماً أن الحريري يحظى اليوم بفرصة تلقّي الدعم من غالبية لبنانية حقيقية، يتقدمها حزب الله نفسه، إلى جانب عون وبقية الأطراف، بمن فيهم خصومه داخل طائفته. لكن شرط ذلك هو الوقوف على منصة تجعله خالياً من أعباء المرحلة الماضية. وهذه عملية تقتضي منه، ليس إدخال تعديلات جوهرية على خطابه، بل على فريق عمله، وعلى طموحاته الشخصية أو العامة، ما يمكّنه من حصر الخسائر في ما مضى.
لكن المشكلة الكبرى هي التي ستواجه النائب وليد جنبلاط وفريق «القوات اللبنانية». الأول تمتع بمزايا كثيرة في خلال العقود الثلاثة. لكنه صرف معظم رصيده العام، حتى بقي في يده ما يسمى «بيضة القبان». وجاء تردده، وسعيه إلى منطق المسافة الواحدة من الجميع، ليكشف المستور، وهو أن هذه «البيضة»، انتهت فعاليتها، وأنها إما هي «فقست» ولم تلد صوصاً، أو هي «مَوْدرت» فرميت في سلة مهملات التاريخ.
لم ينتبه جنبلاط ــــ أو هو عاجز عن الانتباه ــــ إلى كون الموقع الذي يمثله في الدولة، كزعيم أغلبية درزية، لم يستند يوماً إلى قاعدة عددية. اذ لم يكن الدروز يوماً كثرة تهدد الآخرين، بل كانت القوة تنتج من موقع متقدم في الإقليم والعالم، وعن صلات عابرة للطوائف في لبنان. لكنه أهدر كل تركة والده (وإن كانت هناك حاجة لمراجعة نقدية لتجربة كمال جنبلاط)، وقبل بلعبة تقاسم الجبنة الداخلية، حتى انتهى به الأمر زعيماً لقوة لا أثر حاسماً لها في الاقتصاد والمال والعسكر. وبات كل ما يقدر عليه، اللجوء السياسي تارة عند هذه الجهة، وتارة عند تلك.
أما المناضل المسيحي، ابن الفقراء المنتفض على الإقطاع المسيحي، الفرد الساعي إلى جعل الأطراف شريكة في قرار المركز، لا تابعاً منفذاً، فهو وإن دفع ثمن تمسكه بمواقفه بالسجن أو التهميش، يحاول اليوم إقناع نفسه بأنه العنصر الحاسم الذي أوصل عون إلى قصر بعبدا.
سمير جعجع تنقصه الجرأة للقول إنه خسر. وقد بدأت خسارته، عندما أقر حلفاؤه من المسلمين، في لبنان والإقليم والعالم، بأن الرئيس سينتمي حكماً إلى الفريق الخصم له، وأن دوره لن يتجاوز المشاغبة على عون. وعندما أُلزم بأن يختار بين خصمين ومنافسين هما العماد عون والنائب سليمان فرنجية. هذه خسارة ليست قليلة. ومحاولة التصدي لها لا تتيح مناورات كبيرة. حتى تأييده لترشيح العماد عون، لم يكن له المقابل الذي يحاول إقناع نفسه وقواعده بالحصول عليه. فلا عون غيّر هويته السياسية وتحالفاته الأصلية. ولا موقفه سبّب التغيير الجوهري في قواعد اللعبة، لأن ما حصل هو أن الرئيس الحريري عاد إلى ما كان يفكر فيه منذ عامين ونصف عام، عندما ناقش سبل التفاهم مع عون. وما فعله الحريري عندما أيد عون، لم يكن تراجعاً بسبب موقف جعجع، بل إقراراً منه، ومن داعميه، بأن لا فرصة لرئاسة من دون عون.
أما الوهم الآخر، فهو اعتقاد جعجع بأنه سيكون الوريث الطبيعي لتيار العماد عون الشعبي. ينسى جعجع، هنا، أن لهذا الجمهور، أساساً، مشكلة كبيرة مع جعجع نفسه، قبل قواعده. كما أنه جمهور له طموحاته ومبادئه التي لا تتناسب أبداً مع طموحات جعجع والقوات. وأي وريث أو شريك لعون لن يقوم إلا إذا اقترب من جوهر خطاب الجنرال، ومن جوهر أفكار جمهوره وطموحاته.
تاريخ بلادنا، ومواصفات قادتنا العظام، لا توحي بإمكانية تغيير حقيقي. لذلك، على الأرجح، سنكون أمام جولات من الانفعال والصراخ، بحثاً عن آليات تعيد إنتاج منظومة المصالح نفسها القائمة منذ سلخ الاستعمار لبنان عن بلاد الشام…