تكديس الخسائر، فن سياسي، يُعبَّر عنه بادعاء الانتصار الحتمي، يوماً ما. الاعتراف بالخسارة يستدعي المحاسبة. للعرب شهرة لا تنافس في تكديس «الأرباح» من الخسائر… بعد «نكسة حزيران»، قيل علناً، «لم يسقط النظام»، وهذا انتصار. فعلاً، لم تسقط أنظمة. سقطت القدس، احتُلَّت الضفة الغربية لفلسطين، واحتُلَّت مرتفعات الجولان، وتشرّد الفلسطينيون إلى مخيمات اللجوء… وحده جمال عبد الناصر، أحسَّ بعظم المأساة ووطأة الكارثة وهول الخسارة. قرَّر أن يتنحّى، أن يدفع الثمن ويستقيل. لقد سمّى الخسارة خسارة. شعبه انتفض. قَلَب الخسارة صبراً وتجرّأ على الرهان الصعب: «إزالة آثار العدوان». لم تعرف الأمة قائداً كبيراً يتنحّى. غيره، هرب إلى الأمام. أضاع كل شيء واحتفظ بالسلطة، بكلفة باهظة ومعاناة قاسية ومستدامة.
خمسة أعوام ونيّف من تكديس الخسائر في سوريا. عقد من الإخفاقات الدامية في العراق. ما يقارب العامين من المآسي اليمنية المتصلة، أكثر من ذلك الجحيم الليبي. ومع ذلك، لم يعترف أحد بعد بالخسارة، بل بالخسائر، ولا أحد، في قرارة قراره، يجرؤ على التأكد من الانتصار. يكدّس الخسائر على أمل ضئيل، يقضي بتحسين شروط التفاوض. الطريق إلى طاولة الحوار، في عواصم الغرب، معبَّدة بالدم ومترعة بالقتلى ومكتظة بالنازحين، وقد بلغوا الملايين.
لم يربح أحد بعد، وقد لا يربح أحد بعد ذلك. «المعارضة» السورية بأسمائها الدينية والمذهبية تكدس الخسائر. النظام يتقدم في موقعة ويتراجع في أخرى. كرّ وفرّ في جغرافيا مقطَّعة وفي جمهورية مع وقف التنفيذ وبدعم غير مسبوق، إقليمي ودولي، بنتائج لا تصرف على طاولة التفاوض المؤجلة.
العراق يتقدَّم على «داعش»، بدعم جوي أميركي ودعم إيراني ميداني. معركة الفلوجة جاءت بعد خسائر مضنية وهي لم تقنع مجموعات سنية ترى إلى «داعش» عدواً وإلى الحشد الشعبي خصماً وإلى السلطة بين بين.
لم ينجُ العراق بعد. مشقَّة التوحّد باتت أضغاث أحلام. الطائفية أسوأ من الطغيان والاستبداد. هي العدو الذي يهدّد العراق كياناً وشعباً ومصيراً.
لم يربح أحد بعد في اليمن. الحوثيون الذين توهّموا يمناً على صورتهم، فشلوا. علي عبدالله صالح يخسر عندما يربح فكيف يربح عندما يخسر؟ التفاوض مجمَّد عند الجملة الأولى. شروط السعودية الإملائية مرفوضة. كسب الحرب غير ممكن. لم يعُد اليمن يمنين. صار متعدداً، بعدد الجبهات والقبائل والاصطفافات. ليس في الأفق غير الخسائر، موزعة على الجميع، جماعات وأفراداً. وما يُقال عن ليبيا، برغم الجهود الكثيرة، يشبه ساحات القتال في سوريا والعراق واليمن. كأن هذه الدول، لم تعد دولاً، وقد لا تعود أبداً. أفضل الصيغ المفكَّر فيها، تقاسم غنائم تعويضاً عن تقسيم مستحيل.
الدول الإقليمية المشاركة في الحروب الأهلية العربية لم تربح بعد. أيضاً، هي تكدِّس الخسائر، وتراهن على انتصارات وهمية. لقد ولّى زمن كسب الحروب بهزيمة الخصم أو العدو. مآل الحروب الأهلية، هو طاولة المفاوضات. آخر الحروب حتى النهاية، كانت حرب جورج بوش على العراق وتدمير جيشه وإلغاء نظامه وتشتيت شعبه ومباركة صيغة طائفية اثنية، حاضنة للحروب الخاسرة.
تركيا، تعاني من خسائرها. انتقلت إليها الحرب السورية، بعد ما نقلت إلى سوريا حروبها بالوكالة، عبر منظمات وتنظيمات عسكرية مذهبية، تولَّت تنفيذ المعارك، بأمرة تركية، مادية ومعنوية. «داعش» أفضل من «الأكراد» عند أردوغان. لا «داعش» معه، ولا الأكراد يخضعون له. سياسة الخسائر تعوَّض بمعارك خاسرة، وما تزال الحرب في بداياتها.
السعودية لم تربح حتى الآن، إلا معركة البحرين. فشلت في اليمن. دمّرته ولم تُخضعه بعد. يستحيل عليها ذلك. لم تنجح في سوريا. النظام باقٍ بإرادته وبدعم إيراني وقوة جوية روسية وغطاء دولي. حصة السعودية في العراق ضئيلة جداً. النفوذ الإيراني يمنعها من تحقيق المكاسب. جائزة السعودية هي مصر. ومصر رجراجة، العسكر فيها ليس مضموناً إلى الأبد. يبقى «25 يناير» في الأفق. وهذا يُقلق النظام ويثير السعودية أيضاً.
لإيران أدوار متعددة في اليمن وسوريا والعراق. لم تربح بعد. كأن المعارك في أولها. المغامرة الحوثية لم تأتِ أُكُلها. الحشد الشعبي في العراق، حشد حاسم، ولكنه غير مقبول. أو مرفوض، من أكثرية ذات غلبة مذهبية وحساسية قومية واضحة. دعمها للنظام في سوريا لم يرجّح كفته. هي لا تكدّس الأرباح وتراهن على التقليل من الخسائر.
مَن يربح إذاً الآن؟
«إسرائيل» هي الرابح الأكبر، من دون أن تشارك في حرب. لقد دُمّرت سوريا، وألغي العراق، وتشرّد اليمنيون، وحُيِّدت مصر. لا خطر من أي جيش في دول الطوق. هي تحسب حساب «المقاومة الإسلامية» في لبنان. ولأن أرباحها وفيرة، فقد انصرفت إلى حربها بالوكالة على «حزب الله». أميركا، بتأثير من نفوذ إسرائيل على الكونغرس الأميركي، تدير معركة حصار المقاومة وبيئتها في لبنان. وقد تنجح في إملاء قرارات يتبناها الكونغرس، تقضي بإصدار أوامر قبض على قيادات فيه، تكون ملزمة للدول الأخرى.
مَن يربح أيضاً؟
الأكراد، قد يعوِّضون ما فاتهم بعد إقرار «سايكس ـ بيكو». لديهم دويلة ضمن الدولة في العراق، وقد يكون لهم إقليم واسع في الشمال السوري. وأرباحهم العسكرية مؤمنة بالدعم الأميركي الجوي والبري.
ماذا بعد؟
ما يزال الوقت باكراً جداً. لا أحد يتجرأ على القول: «وداعاً للسلاح». وعليه، فإن السؤال المؤلم اليوم وغداً: «مَن يتبقّى من الشعب السوري والعراقي واليمني؟».