أفرَز الاشتباك حول قانون الانتخابات النيابية جبهتين انتخابيتين متواجهتين؛ تضمّ الأولى رئيس الجمهورية ميشال عون ومعه التيار الوطني الحر، والرئيس سعد الحريري ومعه تيار المستقبل، والدكتور سمير جعجع ومعه «القوات اللبنانية». وتضمّ الثانية رئيس مجلس النواب نبيه بري ومعه حركة «أمل»، والسيّد حسن نصرالله ومعه «حزب الله»، والنائب وليد جنبلاط ومعه الحزب التقدمي الاشتراكي، والنائب سليمان فرنجية ومعه تيار المردة أو ما يمثّل من المسيحيين، وكذلك كلّ المتضرّرين أو بالأحرى المستهدَفين بطروحات الوزير جبران باسيل؛ بدءاً بحزب الكتائب وما يمثّل من المسيحيين، وكلّ الشخصيات والمكوّنات التاريخية المسيحية، وصولاً إلى مسيحيين مستقلّين في 14 آذار، وكذلك أحزاب 8 آذار.
الصورة واضحة؛ جبهة مسيحية – سنّية، مقابل جبهة شيعية – درزية مع أقلية مسيحية وسنّية. هي صورة بالغة السلبية بلا أدنى شك، وأسوأ ما فيها أنّها تضع نصفَ اللبنانيين في مواجهة نصف اللبنانيين الآخر. ولكن هل هذه الصورة ثابتة أم إنّها مؤقّتة؟
بعض السياسيين يبالغون في قراءة الوقائع الانتخابية الى حدّ اعتبار هذا الاصطفاف الانتخابي وكأنه انقلاب حقيقي في المشهد الداخلي، أعاد خلط التحالفات السياسية وتوَلّدت عنه جبهتان سياسيتان سيتحرّك البلد على إيقاعهما في المرحلة المقبلة. ويذهب هؤلاء الى توصيف سوداوي للواقع بالقول: «نحن الآن في ما يشبه الحرب الأهلية الباردة»؟!
حتى إنّ قراءة «السياسيين المبالغين»، تبدو متسرّعة، في نظر اكثر المتحمسين لحدوث انقلاب في العلاقات الداخلية، وفي مقدّمتهم خصوم «حزب الله» الذين يرغبون بل يتمنّون فصل العلاقة بينه وبين التيار الوطني الحر. وإن كان هؤلاء لا يرون في أفق العلاقة بين الحزب والتيار عمراً طويلاً لها. وبعضهم مستعد أن يدخل في مراهنات على ذلك؟!
ولكن في المقابل تبرز قراءة سياسية تتّسم بالواقعية، تؤكّد أنّ هذا الاصطفاف مؤقّت، لأنه مبنيّ على مصالح انتخابية، وليس على رؤى وتوجّهات سياسية عميقة ومشتركة، وليس سرّاً أنّ البعض يستثمر الآن على البعض الآخر، ولكن في نهاية عملية «الاستثمار المتبادل»، سيعود كل طرف الى تموضعِه السابق، بعد الانتخابات – إنْ حصلت – أو عند الاتفاق على قانون قبلها.
بناءً على ذلك ترى القراءة، استحالةً في بلوغ «الجبهتين السياسيتين المتواجهتين»، لأنّ ذلك لن يفرز رابحين وخاسرين، بل مجموعة خاسرين، والتجربة اللبنانية تثبت ذلك في الكثير من المحطات الانقسامية، وآخرُها ما بين 8 و14 آذار، وفي النهاية لم يُكتَب لطرف حتى في ذروة قوته الداخلية والخارجية أن يلغيَ الطرف الآخر أو يغلب الطرف الآخر، وفي النهاية ذهبوا رغماً عنهم وجلسوا إلى الطاولة. وبالتالي أيّ اصطفاف جديد سيستنسخ ما سبَقه.
إذاً سيخسر الحميع من دون استثناء، لكن أوّل الخاسرين، هو العهد، حيث يأخذه ذلك من موقع الحَكم إلى موقع الطرف، ويمحو كلّ الشعارات التي طرَحها رئيس الجمهورية عن الوحدة والتلاقي وما إلى ذلك، ويفتح صفحةً جديدة من الاشتباك الذي يجعله في مواجهة نصف اللبنانيين. فكيف سيكمِل في هذه الحالة، خصوصاً إذا تفاقم الامر إلى حد الذهاب إلى الفراغ بعد 20 حزيران؟
والخاسر الأوّل هو الرئيس سعد الحريري، لأنّه سبقَ وخبر شخصياً مرحلة الاصطفاف السابق الذي كان طرفاً فيه، والنتائج السلبية التي تأتَّت عنه، والتي طالته شخصياً في بعض المراحل. فهل يكرّر التجربة؟
علماً أنّ بعض السهام السلبية بدأت توجَّه إليه من محيطه السنّي، سواء على تموضعِه الانتخابي الجديد إلى جانب عون الذي ما زال محلّ تحفُّظ لدى شريحة واسعة في تيار المستقبل وجمهوره، وخصوصاً أنّ 20 حزيران صار على الأبواب، وحكومته مهدّدة بأن تكون أولى ضحايا مرحلة الفراغ المجلسي. وكذلك على أدائه في رئاسة الحكومة الذي وجد فيه بعضُ مراجع السنّة شيئاً من الضعف. الذي يَبعث على الخوف على مكاسب السُنّة منذ اتفاق الطائف.
هذه الاستحالة في بلوغ الاصطفاف السياسي الحاد ونتائجه السلبية، قد تكون هي التي تدفَع أطرافَ الاصطفاف الانتخابي الحالي إلى تجاوزِ عملية الاستثمار المتبادل، والانتقال الى مرحلة السعي الجدّي إلى إنزال الجميع كلٌّ عن شجرته لمصلحة توافقٍ على قانون انتخابي جديد، وهو ما أكّدته وقائع الساعات الأخيرة.
التي انطلقت فيها ما يمكن تسميتها «إتّصالات الفرصة الأخيرة» لإنقاذ الاستحقاق الانتخابي. وفي هذا السياق، يبرز تأكيد شخصية معنيّة مباشرةً بالملف الانتخابي «لقد دخلنا في الجد، وأستطيع أن أؤكّد أنّ الكلّ خائفون ومتهيّبون من الفراغ، ونتيجة هذا الخوف سيتولّد القانون قبل 20 حزيران».
من هنا، تضيف هذه الشخصية، اتّصالات البحث عن المخرج بدأت، والمفتاح هو مجلس الشيوخ الذي طرِح على الطاولة مجدّداً إلى جانب القانون الانتخابي النسبي، ومجرّد طرحِ هذا الموضوع ، والمصادقة عليه يعني الذهابَ حتماً إلى التمديد التقني لمجلس النواب، وبالحد الأدنى لسَنة فما فوق كفترةٍ ربّما لا تكون كافية لبناء مجلس الشيوخ وتحديد هيكليته وكلّ ما يتّصل به.
وثمّة إشارة متّصلة وذات دلالة، تتجلّى في استعداد رئيس الجمهورية وكعامل مسهِّل، على السير في تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية.
ولكن ثمّة إشارة جديدة ورَدت من «المحيط القريب»، وفيها أنّ الرئيس ضد الستّين، ولكن على سلبية هذا القانون فإنّ الناس متعوّدة عليه!