تحدث الرئيس ميشال عون الى القضاة، بلسان كل لبناني مؤمن بالدولة ومؤسساتها، بل نقل شكوى المتقاضين من بطء القضاء، معتبرا ان العدالة المتأخرة ليست بعدالة، وأطلق مبادرة تغييرية، نحو اختيار القضاة بالانتخاب بدلا من التعيين، تحقيقا للاستقلالية.
على أن أهم ما قاله ان القضاء هو الباب الأوسع للحدّ من الجرائم السياسية، أوليس غريبا ان يصدر الحكم باغتيال الرئيس المنتخب بشير الجميّل، بعد ٣٥ سنة من اغتياله، مع ان المتهم معروف ومعترف؟ وهل أغرب من عدم وجود اسم لمتهم واحد، في جرائم سياسية لا حصر لها ولا عدّ منذ سبعينات القرن الماضي… وبدلا من ان يكون الحكم في هذه الجرائم للقضاة، بات للظروف التي تحكّمت بمفاصل الحياة السياسية والأمنية في لبنان، وزادت تحكّما واستهتارا بحياة الناس وحقوقهم، منذ اغتيال قضاة محكمة جنايات صيدا الأربعة، الذين من أجلهم أعلن الرئيس عون الثامن من حزيران، يوما لشهداء القضاة.
ان أهمية استعادة الحقوق من أهمية استعادة الوطن، والانسان سمعة، كما قال الرئيس عون، وسمعة القضاء من سمعة القضاة، كما ان احترام القضاء من مكوّنات قوته الاعتبارية، إذ لا يجوز ان نطلب من الناس، الالتزام بحرمة القاضي، فيما بعض أهل السلطة، يتعاملون مع هذا القاضي المؤتمن على أرواح الناس وأرزاقها، كما لو انه موظف، يهوّل عليه بالتشكيلات والمراكز ويتصرّفون حياله، كما لو انه ليس سلطة دستورية موازية.
وأهمية القضاء ان يمارس ذاتيته المستقيمة والعادلة، على القوي قبل الضعيف، وعلى المقتدر قبل المعتذر، ولقد عانى اللبنانيون كثيرا طوال رحلة الضياع السياسي، الى درجة فقدان الثقة بالنفس قبل الغير، بسبب وضع الصغير مكان الكبير، والجاهل مكان الخبير، والتابع مكان المتبوع، وتغليب الفرضية والهوى على الكفاءة والتجرد، بحيث تحوّلت المؤسسات، في مرحلة ما بعد تخدير أجهزة الرقابة في مرحلة الوصاية، الى أشجار عائلية، أو حزبية ومن دون خجل أو وجل، أو خشية من حساب أو عقاب، لأن أرباب البيت كانوا للطبل ضاربين، وفساد جسم الانسان يبدأ بالرأس، ومتى كان الرأس سليما، سلم الجسم كله.
يوم افتتاح السنة القضائية تحوّل الى يوم محاكمة، للفساد في أوسع قاعات العدالة، قاعة الخطى الضائعة التي يؤمل ان تكون اسما على غير مسمّى…
لقد احترف البعض فن المراوغة والعزف على ايقاع المصالح السياسية، والمنافع المادية المرادفة لها، ما جرّ البلد الى العشوائية والفوضى، فضلا عن انتهاك القوانين واستسهال تخطي الدستور، وتحوّل أهل الحكم الى ديكة تتناتف أعراف بعضها، في صراع لا نهاية له، حول المراكز والمناصب والمشاريع البيّاضة، المعقودة بالقبول والرضى، حتى باتت العمولات عرفا، والفساد ظاهرة، استحقت في لبنان أن يكون لها وزارة مكافحة…
وكثيرا ما يطرح الفساد كحالة سائدة وملازمة لتطور العصور وتلاحق الأزمنة، لكنه لم يتطبّع أو يتقونن كما هي حاله الآن وخصوصا في لبنان.
أوساط دبلوماسية غربية توقفت أمام الحديث المتنامي عن الأزمات المتلاحقة التي يواجهها نظام التقاسم الطائفي في لبنان، والذي أفرز، بحسب الأوساط، تحالفا غير مقدّس بين الطائفية والسياسة، وتسابق الزعامات المتطيّفة على قطع طريق الحركات الشعبية، أو تطويعها في أفضل الأحوال. فهذا التحالف يقوم على حساب المواطنة، وهو ما أتاح ويتيح للنخب التقليدية، وتحديدا لنحو أربعين شخصية سياسية ودينية واقتصادية، من التحكّم بدفّة الحياة السياسية والاقتصادية في لبنان وبلا منازع، بفضل قدرتها على نثر الغبار الديني، فوق الوقائع السياسية والمصالح المرتبطة بها، وبالتالي بسرعة تجاوب المواطنين المتناغمين غرائزيا معها، بتأثير التطيّف والتمذهب والعصبية الجاهلة ما يسهّل لتحالف الطائفية والسياسة التوحّد في مواجهة الصدمات، والتغلّب على التحديات، واستطرادا تحويل كل محاولات ذوي النوايا الحسنة، الى جهد فارغ وخطى خائبة.