السياسة لا تملك ترَفَ الانتظار حتى حدوث متغيّرات. وأيّ نظام سياسي مهما بلغَ عتوَّه لا يمكنه العيش والمضي قدُماً بانتظار معجزة ما: فكيف إذا كان الحال مع النظام السياسي اللبناني المترنّح تحت وطأة الانقسامات؟ السياسة تتحقّق مراساً وعِلماً مع قدرتها على إيجاد ضوء أو أمل في نهاية نفَقٍ ما، وعلى غرار ذلك الذي يعبرُه اللبنانيون حالياً.
ولا يمكن لأيّ سياسة إصابة النجاح إذا ما نهضَت من دون وقائع. فانتظار المتغيّرات لا يعني شيئاً. ولا تكون السياسة علماً وحرفةً ما لم تستند إلى وقائع ومسارات جدّية. هكذا يأتي الكلام عن حوار بادرَ إليه «حزب الله» ضرباً في المجهول، طالما إنّ للأخير شروطه الحاسمة في إقرار سلسلة ممنوعات ومحظورات، هي عَملياً جوهرُ الخلاف الأهلي اللبناني.
فالناظرُ إلى مسار «حزب الله» يدرك تماماً أنّ هذه القوّة السياسية المسلحة ذاهبةٌ من دون وعي وتفكير إلى الاصطدام الحادّ بجدار الأمل: أي الحوار المزعوم. فأيّ حوار هذا الذي يدعو إليه السيّد نصر الله وممنوعٌ فيه الحديث عن ذهاب الحزب إلى سوريا واحتلال جزء من أراضيها؟ وأيّ حوار ذاك الذي يُحظَّر فيه الكلامُ عن سلاح الحزب في لبنان وهيمنته على القرار السياسي للبلد برُمَّته؟
والمستهجَن في سلوك «حزب الله» السياسي، أنّه لا يحاول عقدَ تسويات مع مكوّنات الاجتماع اللبناني، تُخفّف من وطأة اتّهامه بجرائم الاغتيال، ومصادرة قرار الجمهورية الديموقراطية السعيدة بالتمديد وتصنيم المؤسسات، وتجعل من هذه الاتّهامات، بصرفِ النظر عن مدى دقّتها بالنسبة له، سبباً حاسماً لمحاولة التواصل مع الفئات والطوائف والقوى السياسية.
بل على العكس من ذلك تماماً، فهو يمضي في نهجِه المُكابر والاستعلائي، فيتّهم كلّ مَن يختلف معه أو عنه، بالعَمالة للأعداء والتآمر على المقاومة، وكأنّ اللبنانيين يحيون أناءَ الليل وأطرافَ النهار في الدعاء لله بأن يَمنّ عليهم بالخضوع للاحتلال الإسرائيلي.
والنتيجة ثابتة: «حزب الله» يتّهم تيار المستقبل وقوى «14 آذار» بالعمالة لقوى ودوَلٍ تُصَنَّف في خانة الأعداء، وتالياً ليس من حقّ هؤلاء أن يدافعوا عن أنفسِهم حيالَ قتلِهم وتهميشهم، وعليهم أن يتقبّلوا أحكامَه بوصفِهم خوَنة، ويسعون وراء خارجٍ ما للتزَلّفِ والاستزلام له. وعليه، يصبح وضع البَلد، على ما هو عليه الآن، ثابتاً لا يعرف متغيّراً أو طريقاً للخروج من أتون الانقسامات التي تضعه على حافة الانفجار بكلّ ما للكلمة من معنى.
لكنّ مقتلَ هذا السلوك يكمن في أنّ «حزب الله» لا يعي حقيقة أنّ قناعات الناس في البلد ليست طوعَ بنانِه، وأنّ اتّهاماته للقوى السياسية ورجال السياسة والفكر في البلد لا يقام لها أيّ وزن لدى مختلف شرائح الاجتماع اللبناني. لذا فإنّ محاولاته للهيمنة على البلد على هذا النحو الذي يتبعه لن تُنتجَ غيرَ مزيدٍ من الإحباط في نفوس اللبنانيين وبينَهم مناصروه.
والحال هذه، حسَناً فعلَ الرئيس سعد الحريري بتعيينه السياسي المباشَر لواقع التعقيدات الأمنية والسياسية والاقتصادية في لبنان. وإذ جزمَ «بأننا لن نستسلم مهما كانت المشاكل، وممنوعٌ أن نفقدَ الأمل»، إلّا أنّ ما ينبغي التنبُّه له أنّ الأمل لا يمكن أن يولدَ من غيبٍ، بل هو وليد حراك ومثابرة. وإذا كان الحريري يفعل ويقاتل لإيجاد مخرج فإنّ الطرف المقابل يجهد لتثبيت وقائع البلد على ما هي عليه، ويُصرّ على محظوراته التي هي سبب الانقسام.
بمعنى ما، بات الحريري ضرورةً سياسية لبقاءِ حزب الله. وهو حاجة للتصدّي لتسَلّلِ «النصرة» و»داعش» إلى البلد، عِلماً أنّه هو، وقبل الحزب، أوّل المتضرّرين من هذين التنظيمين الإرهابيين. وهكذا فإنّ المطلوب من رئيس تيار «المستقبل» الانضواءَ في حروب «حزب الله» وليس إعادة تصويب مسار البلد السياسي والديموقراطي.
الخلاصة من هذا كلّه لا تتعلق بخيبةِ الأمل من «حزب الله»، فاللبنانيّون على الأرجح لم يكن لديهم في يوم من الأيام أملٌ بـ»الحزب» ليَخيب. بل الحقّ أنّنا جميعاً نسعى وراء «أملٍ مفقود».