IMLebanon

خطر اللعب في الوقت الضائع

 

إستمعنا خلال اليومين الماضيين إلى خطابات لعدد من الأفرقاء، تبيّن من أكثرها أنّ من يلقيها ليس على صلة بأرض الواقع، أو أنّه يعيش حالة إنكار لما يجري، أو في وضع تنكّر لما فيه مصلحة الجهة التي ينتمي إليها. هذا يبدي عواطف صادقة مع مطالب الناس. وذاك يعقد مؤتمراً صحافيّاً ليقول انّه لا يزال موجوداً على الساحة السياسيّة. وآخر يتحدث بقليل من الفوقية، وكأنّه مقتنع بأنّ زعامته لا تُمسّ، وكأنّ لا قيمة لما يحصل في الشارع.

 

إلى أيّ جنس تنتمي غالبية الطبقة السياسيّة في لبنان؟ ألم تستوعب بعد أنّ هناك استحالة في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء؟ وأنّ بعض فئاتها يساعد من يتّهمهم بالتغلغل في الحراك على تحقيق مآربهم؟ لا يحاول مدّ اليد لمن يعترف بأنّهم أبرياء في الشارع. لا يبدو أنّه مستعدّ لأن يمتصّ شعور هؤلاء بالغضب والمظلومية عمّا عانوه خلال الأعوام الثلاثين الماضية. يكتفي بإبداء تعاطف لا يغني ولا يسمن من جوع.

 

أيّ من هذه الخطابات لم يشفِ غليل المواطن الصادق، ولم يقدّم له ولو محاولة للإجابة عن أسئلته الوجودية: ما هو مصيري الأسبوع المقبل؟ ما هو مصير راتبي ووديعتي في المصرف؟ ما هو مصير الضمان الاجتماعي؟ نفهم أنّ هناك محوراً قلقاً يخاف من التآمر عليه. ونتفهّم قناعته بأنّ هناك خاصرة رخوة فتحت عليه تسعى لأذيته. ولا شكّ أنّ هناك صوابية في مفتاح الحلّ في لبنان، الذي لا يمكن أن يكون إلّا من خلال جواره الإقليمي، أي سوريا والعراق. ولكنّه أمر يُبحث فيه بعد طمأنة اللبنانيين حول حصانتهم المالية والوجودية.

 

وكأنّ الطبقة الحاكمة لا تزال تلعب في الوقت الضائع، في انتظار استبيان إمكانية الوصول إلى اتفاق سياسيّ يعيد إحياء “التسوية الرئاسية”، قبل الذهاب نحو خيارات أخرى بدأت ملامحها تظهر بين السطور. بات واضحاً أنّ الرئيس سعد الحريري عاجز عن المساومة على مطالبه للعودة إلى رئاسة الحكومة التي يريدها تكنوقراطية صافية. وصار جليّاً أنّه لم يتمكن، حتى الآن، من تقديم الضمانات التي تطمئن هواجس الطرف الآخر. بقيت ورقة أخيرة قبل الانتقال إلى المرحلة التالية، تختصر بما يحمله الموفد الفرنسي في جعبته. رهانات كثيرة تبدو معلّقة على الوافد الأوروبي، الذي جرى التحضير لزيارته جيداً بعدما تمّ العمل على إنضاج ظروفها. سبق لسفير بلاده في بيروت أن استطلع أجواء الأفرقاء كافة، بطرقه الخاصة. الرسائل التي بعثت بها باريس كانت مباشرة.

 

استقرار لبنان مطلب أوروبي. بات منتشراً أنّ المقاربة الفرنسية للملف اللبناني تتمايز عن الأميركية منها، من دون أن يعني أنّهما لا تتكاملان.

 

لفرنسا علاقة مميزة مع لبنان، ولأوروبا مصالح اقتصادية كبرى مع المنطقة. يكفي أنّها شريكها التجاري الأول. القرب الجغرافي عامل حاسم، والعلاقة التاريخية رابط غير قابل للفكاك. الجاليات العربية (والإسلامية خاصة التركيّة) هناك، عدداً وتأثيراً، خير معبر. أيّ اهتزاز في استقرار المنطقة، لا بدّ أن ينعكس في شوارع المدن الأوروبية. ملف اللاجئين لا يزال ثقله حاضراً. بات معروفاً كم تسبّب من مشاكل للقارة القديمة منذ العام 2011.

 

في المقابل، أصبح جليّاً أن منطقة الشرق الأوسط لم تعد تحتلّ رأس القائمة على جدول أولويات واشنطن. أداء العم سام خلال الأعوام الماضية، وخاصة بعد إعلان أوباما حول أولوية بحر الصين، دليل لا لبس فيه. وإن أخطأ أحدهم في قراءته، يكفي عليه الاستماع إلى الصراخ الذي يعلو في العواصم الحليفة، وباتت تتهم واشنطن بـ”الخيانة”. لطالما كان النفط خطاً أحمر أميركيّاً، من أجله بذلت واشنطن الغالي والنفيس، أرواحاً وعتاداً وأموالاً. ولأجله كان استقرار الشرق الأوسط هدفاً أميركياً أسمى، على الأقل مذ وضعت الحرب الباردة أوزارها ووطأت القوات الأميركيّة آبار نفط الخليج. لم يعد الأمر على هذه الحال.

 

ما عاد النفط غاية لذاته، وإنما السيطرة عليه وسيلة لكبح جماح التنين الصيني والروسي. أو بالأحرى، لم تعد أميركا قادرة، أو مستعدة، لدفع تكلفة نفوذها في المنطقة التي بدأت بمغادرتها، معلنة بصراحة انّها تستطيع إنجاز استراتيجيتها من غير أن تطأ جزمات الجنود أرض معركة. تريد أن تتركها، أو بالأحرى تلك المحسوبة على النفوذ الإيراني، على حال من اثنين: إما مطواعة، بالحدود الدنيا التي ترضيها، أو أرضاً محروقة غير قابلة للحياة. فعلت ذلك في سوريا، وهي تحاول اليوم في العراق. لبنان لا يشذّ عن هذه القاعدة.

 

بناء عليه، ماذا يمكن ان تكون عليه مهمة الموفد الفرنسي؟ أن ينتزع تنازلات من الأطراف المعنية بما يضمن أن يكون الحكم في لبنان “مطواعاً بالحدّ الأدنى” من دون المساس باستقراره. وماذا يعني ذلك؟ باختصار، احتفاظ “حزب الله” بسلاحه في المستودعات، بما يبقيه خارج الاستعمال، والاحتفاظ بخطابه المعادي لإسرائيل من دون ترجمة عملية، والقبول بترسيم الحدود الجنوبية بالشروط الأميركية – الإسرائيلية، والتحول إلى حزب سياسي يُعنى بالشؤون التنموية وينأى بنفسه عن الشؤون الإقليميّة، وذلك بثمن انهيار نقدي – مالي – اقتصادي يُغرق الحزب، رغماً عنه، بوحول الداخل اللبناني بعد أن تعصف فيه الفاقة والجوع. وللمفارقة، تستخدم واشنطن وباريس أسلحة مشابهة: الأولى ترفع سيف الدولار، والثانية عصا “سيدر”.

 

من هنا، لا يمكن فهم خطابات اليومين الماضيين إلّا من هذه الزاوية. هي الورقة الأخيرة على الطاولة، قبل الانتقال إلى مرحلة جديدة. الجميع في انتظار ما ستسفر عنه محادثات كريستوف فارنو، المفترض أن يقدّم خلاصة بها إلى ديفيد شينكر في باريس الأسبوع المقبل، قبل أن يبنى على الشيء مقتضاه.

 

تجربة الوساطة الفرنسية في الملف الإيراني لم تكن مشجّعة. فعلت الكثير لتقريب ذات البين على مستوى الصراع الأميركي – الإيراني من دون نتيجة تذكر. بدت كموفد أميركي بجواز سفر أوروبي. عسى أن يكون الأمر مغايراً في رحابنا. إشارات متعددة لا توحي بذلك حتى الآن.