منذ ان فُتِح المغلّف الكبير الذي وصل الى ساحة النجمة في 14 آب الجاري بدأ النقاش حول الظروف التي دفعت الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان الى توجيه 38 رسالة بأسماء عدد مماثل من النواب. وفي ظل فقدان مثل هذا التصنيف الجديد فتح الأفق على اكثر من سيناريو قبل ان يتقدم أحدها على نظرائه، وهو يتحدث عن وقوع انشقاقات في بعض الكتل النيابية. وعليه ما الذي يقود الى هذه الفرضية؟
منذ ان عاش لبنان التجربة النيابية لم تشهد ساحة النجمة تركيبة نيابية في الشكل الذي انتجته انتخابات ايار العام الماضي، وخصوصا انها، وإن انتهت الى فقدان الاكثرية السابقة لحجمها، فإنها لم تلد أخرى. وبات من الصعب الحديث عن احتمال تشكيل قوة نيابية قادرة على الحسم في معظم الاستحقاقات المنوطة بالسلطة التشريعة، وهو ما دفع الى شل المحاولات التي امتدت على مدى ستة أشهر كانت فاصلة عن نهاية ولاية رئيس الجمهورية السابق العماد ميشال عون على تشكيل حكومة جديدة قبل ان تخلو سدة الرئاسة من شاغلها بعدما عبرت مهلة الستين يوما الفاصلة عن نهايتها من دون انتخاب رئيس للجمهورية. عدا عن الفشل في الوصول الى محطة تشكيل حكومة جديدة على رغم من تكليف رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي التي افتقدت ثقة المجلس النيابي الجديد منذ ان تولى مهماته أياما قليلة على إقفال صناديق الاقتراع وتحديدا في 22 ايار، فامتدت مدة التصريف الى أيامنا هذه في سابقة لم يعرفها تاريخ الحكومات حتى اليوم.
ثمة من قال ان اكثرية العام 2008 التي نالتها قوى 14 آذار قبل تفكيكها لم تتمكن ايضا من ان تحكم، لكن ذلك كان له ما يبرره، تجنبا لفتنة سنية ـ شيعية بعدما كان دم الشهيد رفيق الحريري ما زال ساخنا عندما تصدت له ثنائية شيعية لم تعرف من قبل معطوفة على تحالف نيابي غير مسبوق ولد في 6 شباط 2006 على شكل «مذكرة تفاهم» تم توقيعها بين زعيم ماروني هو العماد ميشال عون الذي كان عائدا قبل فترة من المنفى على رأس «التيار الوطني الحر» والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، واختيرت لتوقيعه احدى قاعات كنيسة مار مخايل لما كانت ترمز اليه من نقطة التقاء مسيحية ـ اسلامية رمزت الى ما يمكن ان يحققه هذا التفاهم لتعزيز التعايش بين المسيحيين والمسلمين ودرء الفتنة المذهبية من أي جهة حاول البعض إحياءها.
وعلى خلفية هذه الشعارات الكبرى انهارت الاستحقاقات الدستورية لاحقا، وعلى رغم من تجاوز ما حصل في حرب تموز العام 2006 فقد ادى التقاطع الذي تلا ما سمي «غزوة بيروت» الى الاتيان بالعماد ميشال سليمان رئيسا للجمهورية قبل ان ينتهي عهده بأطول فترة فراغ رئاسي امتدت على مدى 29 شهرا ولم تنته قبل ان انخراط الجميع في التسوية السياسية التي جاءت عام 2016 بتحالف عريض بمرشح حزب الله شريكه عون الى قصر بعبدا على صهوة «تفاهم معراب» الذي اقر باوراقه على تقاسم السلطة بين «ثنائي مسيحي» مُحدث أراد ان يكون توأما لـ «لثنائي الشيعي» ولم يفلح في تقليد تجربته. وقد عززه يومها «اتفاق بيت الوسط» الذي قيل انه كان يهدف الى ان يكون سيد البيت الرئيس سعد الحريري رئيسا للحكومة طوال العهد العوني قبل ان يكتمل التفاهم بـ «اتفاق كليمنصو» مع الزعيم الاشتراكي الدرزي وليد جنبلاط.
لم يكن هذا العرض مجرد سردية لمرحلة من التفاهمات ألغت وجود أكثريات نيابية او عطلت مفاعيلها الدستورية بقوة قاهرة او بتفاهمات موضوعية متعددة الوجوه والاهداف بهدف «ربط النزاع» مع «حزب الله» بل لالقاء الضوء على امكان تحقيق مثل هذا الستاتيكو مرة أخرى في الفترة القريبة كمؤشر الى حجم المساعي المبذولة لإنهاء الشغور الرئاسي وضمان وصول المرشح الذي يدعمه «الثنائي الشيعي» سليمان فرنجية الى قصر بعبدا وهو ما ترجمته إحدى القراءات التي انتهت اليها عملية بحث تناولت الأسباب والدوافع التي قادت الموفد الرئاسي الفرنسي الى ترتيب دعواته للشخصيات الـ 38 إلى حوار، سواء قرر لاحقا ان يكون بالمفرّق او ثنائيا او ثلاثيا بعدما وجهها الى أصحابها بالاسم عبر الامانة العامة لمجلس النواب.
وهي خطوة رفعت منسوب الحيرة، بعدما حفلت بـ «الالغاز الرقمية» في ظل صمت فرنسي مطبق حال دون تفسيرها الآني او المسبق، وهو ما سمح بكثير من السيناريوهات المتداولة في السر والعلن، مما يمكن القبول به او رفضه في المطلق سعيا الى فك الغازها، او لتبرير وجود مثل هذه اللائحة في حوزة فريق العمل المتعاون مع لودريان سواء كان اعضاؤه من بقايا «خلية الازمة» الرئاسية الفرنسية بعد تفكيكها ووقف مهماتها في 8 حزيران الماضي بعد تكليف لودريان المهمة الرئاسية المحدثة، او ممن تم ضمهم اليه من اركان السفارة الفرنسية في بيروت التي افتقدت رئيسة خليتها السفيرة آن غريو المنتهية خدمتها قبل أسابيع قليلة والمنتقلة الى موقعها الجديد الذي سيسمح لها بالبقاء على تماس مع لودريان ومهمته والسفير الجديد في بيروت بكل ما يتعلق بملف اسمه «ملف لبنان».
وعلى خلفية ادراك العارفين ان الغاز لودريان وما يمكن ان يقوم به ما زالت بعيدة عن اجواء بيروت وصالوناتها السياسية، ثمة من كشف ان لائحته هذه قد خضعت للتمحيص في أكثر من مكان، ولما تعددت القراءات لها افيد ان اقوى السيناريوهات تحدث عن مؤشر لحجم التفكك الذي أصاب بعض الكتل النيابية الكبيرة والمتوسطة الحجم والتي أشار اليها لودريان بإشارات واضحة عندما وجه رسائله الى اكثر من عضو في تكتلات نيابية مهددة بالاهتزاز تحت وطأة الشغور او لأسباب أخرى قد تأتي بها الايام المقبلة تحت وطأة مجموعة من الاستحقاقات التي يصعب على البلد تحملها. وإن كانت هذه القراءة قد أصيبت بندوب كبيرة نتيجة تجارب طاولت كتلا موحدة بنسبة عالية، فان تخصيص كتلتين نيابيتين كبيرتين بثلاثة رسائل الى أقطابها وكتلا متوسطة الحجم برسالتين، والتغييريين بثلاثة، فقد أحيت النظرية القائلة بإمكان تفسخها إن حالت الإتصالات الجارية في الداخل والخارج دون اجماع نيابي كبير وواسع على «مرشح توافقي» أو «مرشح اجماع» يتقدم السباق منفردا الى قصر بعبدا مرتاحا الى تفاهم عريض.
وعليه ومن دون الدخول في كثير من التفاصيل فان محاولة اعادة تجميع رسائل لودريان وانزالها من 38 الى 15 او 17 رسالة قد يكون الحل الناجع للتفسيرات المتعددة، المسموح بها أو من غير المسموح، الى يأتي الجواب الشافي من باريس او غيرها من عواصم «لقاء باريس الخماسي» ستبقى هذه السيناريوهات مطروحة شاء من شاء وأبى من أبى.