معيبٌ القول إنّ الرسالة التي وجّهها الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان الى النواب قد فاجأت بعضهم. فقد انتظر حتى منتصف آب رسائل المعنيين بالاستحقاق الرئاسي، ليجهّز ورقة عمله الخاصة بالقواسم المشتركة التي يلتقون حولها، قبل أن يُطلق الحوار ويحدّد الآلية التي سيعتمدها. ولمّا لم يتحقق ما أراد، وجّه رسالته مذكّراً قبل أن يكون محذّراً. فعلامَ استند في خطوته؟
فرضت الرسائل الـ 38 «الفرنسية» المترجمة إلى «العربية» التي وجّهها إلى نواب الامّة اللبنانية عبر الأمانة العامة لمجلس النواب، قراءة مُحدثة في شكلها وتوقيتها والمضمون، لما يمكن ان تؤدي اليه مهمّته الجديدة في شأن الاستحقاق الرئاسي، خلال الجولة الثالثة المرتقبة له إلى لبنان الشهر المقبل. كما أنّها حملت مؤشرات إلى ما يمكنه القيام به من خطوات إنفاذاً لمهمّته الرئاسية التي أشار اليها في زيارته الثانية لبيروت ما بين 25 و27 تموز الماضي، والتي تلت لقاء الدوحة قبل أسبوع منها، والذي جمع أعضاء «لقاء باريس الخماسي» بنسخته «القطرية الثانية».
وعليه، وقبل الدخول في الدوافع والأسباب الموجبة التي قادته إلى هذه المبادرة، لفتت مصادر ديبلوماسية اوروبية إلى انّ عدد الرسائل التي جمعها «الظرف الكبير» الذي تسلّمته الأمانة العامة لمجلس النواب الاثنين الماضي، عبّرت في شكلها عن إحصاء وتصنيف دقيقين لمن جمعته بهم جولتاه الأولى والثانية من المعنيين بالاستحقاق الرئاسي. ولذلك فإنّه لم يوجّه مثيلات لها لمن استثنوا منها، كمثل رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي والبطريركية المارونية ومرجعيات أخرى التقى بها، وحصرها برؤساء الكتل النيابية والنواب المستقلّين والتغييريين، ومن التقاهم بصفتهم نواباً منفردين لم يلتحقوا او خرجوا من كتل او حراك نيابي جامع. وانّ التمعن في لائحة من وُجّهت إليهم هذه الرسائل يكفي للتثبت من هذه الملاحظات.
اما في التوقيت، فقد جاءت الخطوة منتصف آب، لتؤكّد أنّ هذا الشهر الذي شكّل عطلة ديبلوماسية لدى المسؤولين الأوروبيين والأميركيين وغيرهم من الدول المعنية بالوضع في لبنان، لا تنطبق على مهمّته. فهو بقي أينما وجد سواء في باريس او في مسقط رأسه في الشمال الفرنسي ومعه فريق عمل مصغّر، على تواصل دائم مع قادة لبنانيين تمنّوا الحديث اليه او انّه كلف من بادر إلى الاتصال بهم، ومعهم أركان السفارة الفرنسية في بيروت، على الرغم من مغادرة السفيرة آن غريو التي أنهت مهماتها الديبلوماسية في لبنان والتحقت بمقر عملها الجديد في وزارة الخارجية الفرنسية.
وقالت المصادر عينها، انّ لودريان بذل جهداً كبيراً للإحاطة بمواقف الأطراف كافة، وردّات الفعل على الطروحات الجديدة التي تقدّم بها، ليس لكونه موفداً رئاسياً فرنسياً فحسب، انما بالنيابة عن أطراف اللجنة الخماسية التي حمّلته الملاحظات التي عكست الصيغة الجديدة التي حملها إلى المسؤولين اللبنانيين في زيارته الثانية. ولهذه الغاية يتلقّى لودريان تقريراً يومياً بما يُنشر في الصحافة اللبنانية من مواقف وطروحات تتصل بمهمّته بنحو دوري ومنتظم، وقد بلغت في يوم من الايام ثلاثة تقارير، ومنها تقرير خاص جمعته الأجهزة الخاصة بالسفارة.
الى ذلك، فقد حرص لودريان على الاّ يضيع شهر آب من دون أن يطّلع على التحضيرات الجارية من جهة كل طرف من الأطراف المعنية بالاستحقاق، من أجل الحصول على أوراق العمل التي يتمنّى الحصول عليها في أسرع وقت ممكن، في محاولة لاستعجال وضع ورقة العمل الخاصة به، وليجمع «القواسم المشتركة» في الصيغة النهائية التي يمكن أن يعدّها من مختلف هذه الأوراق. فهي الوثيقة التي ستشكّل «خريطة الطريق» الجديدة التي سيسلكها ويمشي في هديها في المرحلة الثالثة من مهّمته، والتي وصفها بأنّها ستشهد حواراً «محدوداً» و»هادفاً» بين اللبنانيين، تنتهي الى ما يفضي إلى الدعوة التي يوجّهها رئيس مجلس النواب نبيه بري لعقد جلسة انتخاب الرئيس العتيد، على ان تليها دورات متتالية حتى انتخابه. ملمحاً الى مسؤولية من يعوق او يعرقل مثل هذه الخطوة، ومنبّهاً الى انّها قد تكون الفرصة الاخيرة امام اللبنانيين، قبل أن يتخذ الأطراف الخمسة ما يرونه مناسباً من الخطوات التي يمكن أن تؤدي إلى عقوبات تُفرض على المعرقلين، قبل أن ينفض العالم يده من هذا الملف.
وعند بلوغها الحديث عن الظروف والدوافع التي قادته الى هذه الرسالة ـ المبادرة، كشفت المصادر الديبلوماسية، انّ بعضاً من التقارير اليومية التي تلقّاها لودريان تحدث عن تجاهل بعض الأطراف الفاعلة لموضوع «الوثيقة المطلوبة»، معتبراً انّ ما تبلّغه لودريان أثناء وجوده في بيروت كان كافياً لمعرفة حقيقة مواقف هذا البعض التي لم ولن تتغيّر، وهي كافية ليقدّر هو بنفسه اتجاه الريح للمرحلة المقبلة. كما قال آخر، انّ اطرافاً اخرى لا تنتظر شيئاً من هذه المبادرة، نتيجة التشكيك بقدراته كموفد فرنسي او بالإنابة عن الخماسية الدولية.
وأضافت هذه المصادر، أنّ ما حملته هذه التقارير من مؤشرات رفعت من منسوب الشك لديه، ليس بالنسبة الى ما يمكن أن تتسبب به الأحداث الامنية في عين الحلوة والكحالة من انعكاسات على الاستحقاق الرئاسي، إنما بالنظر الى ما حملته من تناقضات مع مواقف سابقة كان قد اطّلع عليها في جولتيه، وأنّ بعضا منها يدعو إلى القلق، إن صحّت المعلومات التي تتحدث عن رأيين متناقضين، أحدهما للمجاهرة به امامه ونظرائه من الموفدين الدوليين، وآخر للداخل الحزبي والسياسي، وهي ظاهرة تهدّد مصير المساعي التي يقوم بها، على الرغم من مجموعة التحذيرات التي حملها في زيارته الاخيرة.
وختمت المصادر نفسها لتقول، انّه ولكل هذه الاسباب وجّه لودريان رسالته الاخيرة لهدفين اساسيين: أولهما التذكير بما طرحه من أسئلة لخّصها في اثنين منها ما يتصل بـ «المشاريع ذات الأولوية المتعلقة بأولويات رئيس الجمهورية خلال السنوات الست المقبلة» وثانيها بـ «الصفات والكفاءات التي يجدر برئيس الجمهورية المستقبلي التحلّي بها من أجل الاضطلاع بهذه المشاريع». وإن لم يكن لودريان واضحاً ما فيه الكفاية فإنّ الاسلوب المُعتمد اراد التذكير بما لم تُشر اليه الرسالة. ولذلك فإنّ الدعوة مفتوحة لقراءة النتائج المترتبة على إعاقة مهمّته وتقدير المخاوف التي يمكن أن يؤدي اليها، ما حذّر منه بيان «الخماسية»، فتاريخ صدوره في 17 تموز الماضي ليس بعيداً. ولا يمكن أن تتجاهل العودة اليه ما تضمنته فقرته الأخيرة من تحذير بعد التذكير.