عامان على اغتياله برصاصات في الدماغ
نصل إلى بيت لقمان، نقف أمام النصب في الحديقة، ثم تحت فيء السنديانة التي أحبّ، نتنشّق الغار، غار لقمان، الذي هو من صخر وشمس وصفر خوف. البيت مفتوح، هكذا كان وهكذا يستمرّ. عامان على قتل لقمان، حدثت خلالهما أمور كثيرة، والحزن ينسينا الحزن. فهل لقمان بات في الذاكرة فقط؟ هل علينا أن نعلن بعد عامين على رحيل لقمان خسارة الرأي الحرّ أمام الإيديولوجية التي أرادت خنق لغة لقمان وصوته قبل موته بكثير؟ هل ربح القتلة؟ وهل البيئة الشيعية باتت تمشي أكثر، بعد عامين على الثالث من شباط ذاك، على خطى لقمان؟
لم يتمّ القبض على أيّ شخص في جريمة قتل لقمان «لعدم كفاية الأدلّة». أمر عاديّ في بلادنا. هو وجد على طريق جانبيّ مؤدٍّ الى العدوسية، بالقرب من طريق صيدا السريع، مقتولاً بستّ رصاصات، خمس في الرأس وواحدة في الكتف. صوّب القتلة رصاصاتهم على دماغ لقمان ليقتلوا فكره، رأيه، صوته، دماغه. يا الله. لماذا اغتالوا قائد الرأي لقمان؟ سؤالٌ ساذج؟ لقمان بدا من زمان على لائحة الإغتيال.
قتلوا الخطر…
في بيت لقمان اليوم أشبه بتظاهرة قادة رأي. شقيقته رشا الأمير مثقلة بهموم الدنيا. صوتها خافت، لغتها تستمرّ أنيقة على الرغم من كل الوجع. الألم الذي يخلّفه إغتيال شقيق لا يترجم بكل لغات الأرض. وحدها كلمات رشا تحمل كل النبض. لا تحبّ الأخت أن تتكلم عن الطائفة الشيعية بعد قتل لقمان لأن «شيعة لقمان» من كل الطوائف والملل. فهل أراد القتلة إغتيال شيعة لقمان أم قتلوه لأنه شيعيّ له صوت؟ تجيب رشا «قتلوه لأنه أصبح، برأي الديكتاتور، خطراً على الطائفة الشيعية، على أفراد تلك الطائفة التي أدركت أن هناك أصواتاً غير صوت الديكتاتور. لقمان لم يكن طائفياً وإن كان يفهم في الفقه والطائفة كان شخصاً قيّمياً أمميّاً. وهو لطالما قال: كل شخص يخرج عن الديكتاتور سيقتلونه. كان عارفاً بالوضع وما فيه لكنه جريء جريء حتى الموت. وكل شخص يخرج من عباءة الإجماع على الديكتاتور الشيعي إما يقتل أو يهمّش. كان لقمان مشعاً على كل الأمم. كان لقمان الإنسان. ويوم اغتيل كتبوا عنه بكل اللغات، في كل مكان، حتى بالألماني والياباني. إذهبوا واسألوا عنه حتى الأعداء وسيخبرونكم عن لقمان الإنسان».
القتلة لا بُدّ يقولون اليوم: ليتنا لم نفعل. فاغتياله جعله أقوى. خسر القتلة و»فشروا» أن ينتصروا عليه» تقول رشا. هو ذكيّ، دماغه أخاف أعداءه، بدليل أنهم صوّبوا على دماغه. أزعجهم كثيراً بآرائه. هدّدوه مراراً الى أن قتلوه. كان يعمل على الذاكرة وإحياء الذاكرة يخيف الجبناء. وقبل أن يقترفوا جرم القتل بحقّه هناك 200 اغتيال سياسي حصل في البلد ووحدها جريمة كامل مروة، حيث كان والده المحامي، تمّ تحديد القتلة فيها. وما عداها لا شيء.
نعود الى البيئة الشيعية بالتحديد لنسأل مجدّداً: ماذا بدّل قتل لقمان فيها؟ تجيب رشا «هناك مئات الشباب والصبايا الشجعان الذين باتوا يقولون أكثر من أي يوم مضى: لا يمكن استمرار الوضع على ما هو عليه في هذا المشرق. هناك المئات يريدون الخروج من العتمة».
قلّة يعرفون أن قائد الرأي لقمان سليم أسّس- بين كل ما أسّسه – حوزة علمية باسم «حوزة السجاد» تخرّج رجال دين وفقهاء. الشيخ محمد ترشيشي، مدير مكتب المرجع العراقي الشيخ الحائري ورئيس جبهة الإعتدال الوطني، أستاذ حوزة عرف لقمان ولازمه طويلاً. فهل أخافه قتل لقمان؟ هل يرى أن قتلة لقمان إنتصروا في فعلتهم الشنيعة؟ هو عرف لقمان طوال ثلاثة عشر عاماً ويقول: «هو إنسان لا يتكرّر في جرأته. وهي جرأة مثقف. كان يقارب المفاهيم بواقعية متحرّراً من كل القيود. ويستطرد: كانت الطائفة قبل أن يقتل مخطوفة من إيديولوجية واحدة وعقيدة واحدة ومرجع واحد. كان طرح الأفكار ممنوعاً في بيئة تعتبر أنها بكل أطيافها واحدة. هو جعل الرّاضخين يتمهّلون ويقولون: لا، هناك شيء خاطئ يحصل. قتل لقمان عرّى الناس والأفكار وكشف حقيقة الآخر. نجح القتلة في اغتيال شخص لقمان لكن فكره إنتعش، خصوصاً بين من كانوا يصطفّون في خانة الإتجاه الآخر. خسر القتلة بدليل أن ثقافة جديدة دخلت على الضاحية التي كانت مقفلة وارتفعت نسبة الأحرار، بحسب الدراسات التي أجريناها، نحو 45 في المئة. ثقافة لقمان تتقدّم وثقافة الآخرين تضمحلّ. يضيف: نحن، من خلال مركز الدراسات والأبحاث، نعمل مثل خلية النحل من أجل إكمال ثقافة لقمان، عبر بناء مفهوم الإنسان في صناعة الرأي».
واقعياً، هل ما نسمعه من الشيخ ترشيشي ينطبق على الأرض؟ ثمّة لغة معتمدة من زمان لا تزال تحاول أن تسطو على كل رأي آخر… يقاطعنا الشيخ بالقول: «ما يحدث الآن دليل ضعف لا قوّة. حين يستخدم الآخر أجهزة وأدوات قتل ليسيطر معناه أنه ما عاد قادراً على إقناع الأحرار بالإلتزام الأعمى به. هو يرهبهم، وقد يرهبهم بعد، لأنه أصبح أكثر ضعفاً. هذا هو مفهوم القوة عبر التاريخ: الإمساك بالسلطة عبر الترهيب».
ما رأي مصطفى هاني فحص بالحال بعد عامين على قتل لقمان؟ هل انتصر القتلة؟ يجيب «قد يكون القاتل حقّق هدفه الذاتي لكنّ فكر لقمان يستمرّ. هذا الفكر ليس فردياً بل حالة. ولقمان ترك حالة مثل النار. وخلقت النار لإذابة القلوب القاسية الظلامية. لقمان بات فكرة لها أجنحة قادرة أن تطير، قد تصعد وقد تنزل، قد تتقدّم وقد تتراجع، قد تخفت وقد تشتدّ، لكنّها تظلّ تتحرّك في كل الإتجاهات. إنها فكرة قادرة على إخراج الناس من الظلمات الى النور. خسرنا لقمان وبقيت الفكرة».
هل نفهم من ذلك أن لا هزيمة بمقتل لقمان؟ يعود فحص الى «ربيع براغ» حين قال ألكسندر دوبتشيك حين دخلت دبابات الجيش الأحمر: «يمكن أن تدوس الدبابات الأزهار لكنها لن تؤخر الربيع». هذا ليس شعراً. إنها سياسة. ويستطرد بالقول: لقمان لم يكن زعيماً سياسياً بل قائد رأي وحالة أرستقراطية وابن عائلة. من قتلوه فعلوا ذلك ظلامية. وأنا على يقين أن مقتله فتح أسئلة داخل الطائفة وإن كان همساً: لماذا؟ ما هو السبب؟ من الفاعل؟ الإيديولوجيات الجامدة مثلها مثل الحديد إذا لم تلن تتكسّر. كل الإيديولوجيات لها تاريخ إنتهاء».
لقمان سليم أخاف الأعداء والخصوم. هدّد مرات واتّهم بالخيانة والعمالة وبأنه من شيعة السفارات. كلّ صوت مختلف يُخوّن. العلّامة السيد علي الأمين قال للخائفين، في الطائفة، بعد مقتل لقمان: لا تخافوا، أنتم الأقوياء. الخائف هو من يشهر السلاح في وجوهكم. القاتل هو الخائف. لقمان كان صاحب رأي في السياسة، يخالف فيه بشكل واضح مشروع حزب الله السياسي، ومن الطبيعي جداً عند حصول الإغتيال لشخص كان معروفاً بخصومته مع آخرين في السياسة أن توجّه الأنظار وأصابع الإتهام الى خصومه. والقضاء هو المسؤول عن إثبات الإدانة أو نفيها».
نعود الى الشيخ ترشيشي لسؤاله عن القضاء في مقتل لقمان فيجيب «القاضي يقوم بما يستطيع لكنه يخشى من هيمنة السلاح». القضاء يبقى حتى إشعار آخر معلّقاً. والسؤال التالي: لماذا قُتل لقمان في الثالث من شباط 2021 بالذات؟ يجيب بالعودة الى 17 تشرين 2019 «يومها نزلت أضخم تظاهرة وحصلت أعظم ثورة في لبنان منذ إنشائه. وهنا بدأ البحث لدى المتذمّرين منها عن أشخاص يلبسونهم أحداثاً خارجية بعيدة عن المفهوم الوطني. واعتقدوا أنهم قادرون على شدّ الوتر الطائفي بذلك لكن ما حدث أنّ الأمور إنعكست سلباً لأن رجال دين كثيرين كانوا مؤيّدين لفكر لقمان. وما كان منهم إلّا أن قتلوه. وحينها إنتشرت فكرة داخل البيئة الشيعية: إذا كان هناك عدوٌّ لهم يقتلونه لإنهاء الفكرة؟ ما اقترف كانت له ردة فعل سلبية جدّاً بين المثقفين» ويختم الشيخ بالقول: «أتذكّر مقولة لقمان يوم علّقوا على باب بيته: المجد لكاتم الصوت. يومها قال: من يلزم الصمت اليوم فلن يحسن العواء غداً».
ما رأي الشيخ عباس الجوهري بالحال بعد عامين على قتل لقمان؟ يجيب «إنها خسارة للكادر الشيعي القادر على التواصل مع العالم الحرّ. هذا النموذج يراد تغييبه. يريدون تغييب كلّ من يتطلّع الى إخراج الشيعة من القمقم الذي وضعوا الطائفة فيه» ويستطرد «إنهاء حياة لقمان لم يغيّر المعادلة حيث إن من قتله لم يخف ومن فعل ذلك لم يستفد فالكلمة تستمرّ» ويستطرد بالقول «نحن لا نكنّ الحقد لأحد، بل نناضل من أجل طريقة تفكير مختلفة. هم وضعوا العراقيل أمام الخطاب الفردي الشيعي حتى تسهل لهم القيادة في بريّتهم. هم قد يكونون أذكياء في ما بدأوه لكن بتقديري لن يستطيعوا المكوث أكثر، بدليل هذا الصعود الشيعي الذي كان يحلم أبناؤه بأن يكون لهم مكان في العالم. وما نراه أن زمن هذا الصعود بتصرفاتهم ولّى. ما يقترفونه بقبضة حديدية وتقاسم النفوذ جعل الفرد الشيعي بلا سقف يحميه. جعله ينكفئ».
لقمان سليم، مرّ عامان. أمور كثيرة تبدّلت ووحده فكره يستمرّ كما النار. وكأنّ لسان حاله اليوم: وكأنّهم يحاولون إخماد نار الفكر والفكرة بالرصاص، وسيحترقون».