أنطلق من الحلقة الأخيرة من برنامج “حكي جالس” للإعلامي جو معلوف، ومن الفظاعة التي فضحها بشجاعة، مشكوراً، في تعامل إحدى دور الرعاية بالمسنين مع نزلائها. أعلم، من تجربة شخصية عاشها جدي في دار أخرى، أن الراهبات، اللواتي لا علاقة لهن بتعاليم المحبة التي يعظن بها، لسن استثناء للأسف، وإن كان لا يصحّ التعميم طبعاً.
بينما كنت أتابع تلك المشاهد، التي لا يمكن ان تترك إنسانا يستحق صفة إنسان في حال من اللامبالاة، لم أستطع إلا أن أضع نفسي مكان هؤلاء العجزة المساكين. رأيت شيخوختي المستقبلية في بلاد لا تحترم كرامة المتقدمين في السن، ولا حقوقهم، ولا سلامتهم. فهم غالبا ما يُترَكون لمصائرهم. المحظوظ فيهم يلقى عناية اولاده وعائلته. ولكن ماذا عن اولئك الذين لا تملك عائلاتهم وسائل الاهتمام بهم لا ماديا ولا معنويا؟ وماذا عن اولئك الذين لا يريدون ان يكونوا “عالة” على عائلاتهم؟ وماذا ايضا عن اولئك الذين لم يتزوجوا وينجبوا اولادا؟ هل يستحق هؤلاء، البؤس والبهدلة وهذه الآخرة الفاخرة لحياتهم؟ ليست هناك على المستوى الرسمي أي مبادرات تقريبا لمتابعة أوضاعهم واحتضانهم ومرافقتهم في اصعب المراحل، وخصوصا اذا كانوا يعانون مرضاً يحول دون استقلاليتهم. اما ما يسمّى بدور العجزة، فتصلنا باستمرار اخبار مروعة عنها، كون نزلائها كما رأينا يتعرضون للإهمال أو للمعاملة السيئة او حتى للتعذيب احيانا من جانب الممرضات والممرضين الذين يفترض بهم ان يتحلّوا بالحد الادنى من العطف والتعاطف، بينما هم للأسف أبعد ما يكونون عن ذلك في اغلب الاحيان.
لن أفاجأ إذا ما أُجري استطلاع في بعض دور “العناية” بالمسنين وتبيّن ان معظم نزلائها يتمنون الموت بدلا من الاستمرار في الاقامة فيها، لفرط ما يشعرون بالالم او اليأس او المهانة. أين نحن في هذا المجال من البلدان المتقدمة حيث يتوق الناس الى التقدم في السن والتقاعد، بسبب ما ينتظرهم من وسائل راحة واهتمام، هي طريقة الحكومات في شكرهم على مساهمتهم الثمينة في المجتمع؟ أقسم أنني زرت في احد الايام مركزا للمسنين في بلد اوروبي، فظننتني في الجنة: وجبات طعام فاخرة ومغذية، ونشاطات جماعية مسلية ومفيدة كي لا يشعروا بالملل وكي لا تتكاسل ذاكرتهم، ومدربون رياضيون يهتمون بصحتهم ولياقتهم البدنية، وطاقم عمل لطيف ومبتسم، لا يتأفف ولا ينتقم ولا يقلل احترامهم. طبعا لا اعمم، ولكن شتان ما بين شيخوختنا وشيخوختهم.
أو بالأحرى: شتان ما بين شبابنا وشيخوختهم!