لم يكن ليل الأحد عادياً، حيث دوّت قضية الاستشارات النيابية في معراب إحجاماً عن التسمية، فانفجرت في بعبدا تأجيلاً جديداً لها، بعد موقف تكتل “الجمهورية القوية” بعدم تسمية أحد لرئاسة الحكومة، وطلب رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري ذلك التأجيل.
عادةً ما يتمّ إستعمال الورقة البيضاء لعدم تأييد أحد من الأفرقاء في أي تصويت، لكن الورقة البيضاء التي قررت “القوات اللبنانية” إستعمالها في الإستشارات النيابية ترجمت بطاقة حمراء أدّت إلى تأجيل الإستشارات مجدداً.
كان موقف “القوات” مُفاجئاً ونزل كالصاعقة على “بيت الوسط”، لكنه لم يكن مفاجئاً للقاعدة الشعبية القواتية التي ضغطت على النواب للإستمرار بالسير على الخطى الأولى للثورة خصوصاً أن الحزب غير طامح ويرفض رفضاً قاطعاً المشاركة في أي حكومة مقبلة ويحمل منذ أشهر لواء حكومة إختصاصيين مستقلة.
صعد النواب إلى إجتماع معراب المسائي والشارع يضغط عليهم لعدم تسمية الحريري مجدداً إنسجاماً مع مطالب الثورة، وعلى رغم وجود بعض الآراء التي كانت تدعو إلى التروي، كانت وجهة نظر الغالبية تطالب بعدم التسمية لأن لا إلتزام واضحاً بحكومة تكنوقراط مستقلة، فيما البعض كان مع فكرة تسمية شخصية مستقلة.
وما البيان الذي خرج به الرئيس سعد الحريري أمس سوى دليل على أن موقف “القوات” كان حاسماً في تأجيل الإستشارات بسبب غياب الميثاقية المسيحية، إذ إنه لا يقبل أن يكلّف ويشكّل حكومة في ظل غياب المكوّن المسيحي.
وأمام كل هذه الوقائع، لا يتوقع أحد أن يحصل أي تغيير كبير من اليوم إلى الموعد الجديد للإستشارات الخميس، إذ إن مواقف القوى السياسية باتت محسومة. وفي السياق، فإن الإتصالات تدل على أن الأمور لا تزال تراوح مكانها ولا أفق لحل صحيح يرضي السياسيين والشعب الثائر على حدّ سواء.
ويبدو أن الحريري الذي أسر الجميع في لعبة التكليف وفرض اسمه كمرشّح وحيد بات أسير لعبة الميثاقية، وتضيق الخيارات أمامه وأمام بقية القوى السياسيّة إذ إن الصورة باتت ملبّدة.
وتشير آخر الإتصالات إلى أن الحريري يدرس كل الإحتمالات التي من الممكن أن تحصل من اليوم إلى الخميس، وأحد الخيارات أن ينال دعم إحدى الكتل المسيحية إما تكتل “الجمهورية القوية” أو تكتل “لبنان القوي”.
ويبدو من الأجواء أن إمكانية إقناع “التيار الوطني الحرّ” بتسمية الحريري أسهل بكثير من إقناع “القوات اللبنانية” لأن “التيار” يُصرّ على المشاركة بشروطه والخلاف مع الحريري هو على حجم المشاركة وطريقة إدارة المرحلة المقبلة، بينما موقف “القوات” مبدئي وهو إشتراط تأليف حكومة تكنوقراط مستقلة، وإذا دخل الحريري وتمسك بحكومة من هذا النوع فإن ذلك يعني الإصطدام مع “حزب الله” وحركة “أمل” ورئيس الجمهورية العماد ميشال عون و”التيار الوطني الحرّ”، وبالتالي فإن إرضاء “القوات” سيكون على حساب بقية الفرقاء ولن يستطيع عندها تأليف أي حكومة.
وما البيان الهجومي الذي صدر عن تيار “المستقبل” وهاجم فيه “القوات” و”التيار الوطني” محاولاً شدّ عصب الطائفة السنية سوى خير تعبير عن حجم الأزمة التي يعيشها والتي وصلت إليها البلاد أيضاً، خصوصاً أنه استعان بنظرية المؤامرة، وأكد أنه لا ينتظر تكليفاً من “التيار الوطني” ولا من “القوات” للرئيس الحريري، ولا يقبل أن يتحول موقع رئاسة الحكومة الى طابة تتقاذفها بعض التيارات والأحزاب، وزمن البطولات انتهى، وزمن العضلات السياسية إنتهى.
وهنا بات يُطرح سؤال كبير وهو “هل استغنى الحريري عن مسألة سعيه للتكليف وهو الذي عمد إلى حرق كل الأسماء من أجل العودة مجدداً إلى السراي الحكومي؟ وإذا كان لا يزال ينوي العودة فكيف لا يسأل عن أصوات تكتّلي “القوات” و”التيار الوطني الحرّ؟”.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى ميثاقية التكليف، فهو من لعب لعبة الميثاقية واسمه كمرشح للرئاسة خرج من دار الفتوى وأذاعه المرشح آنذاك سمير الخطيب بعد أن كان قد ردّد عبارة “أحد غيري لا أنا”، وبالتالي كيف لا يهم “المستقبل” الذي يناقض بيانه بيان الحريري موقف أكبر كتلتين مسيحيتين؟
وتروي مصادر قريبة من بعبدا لـ”نداء الوطن” ما حصل في ساعات الصباح الأولى حيث إتصل الرئيس نبيه بري بالرئيس عون وتمنّى عليه تأجيل الإستشارات “كي يساوي الحريري بعض الأمور العالقة والتي قد تعرقل التكليف”، فقال له عون “لماذا لا يأتي الحريري ويقابلني ويشرح لي ماذا يريد؟”، ومن ثمّ تمّ الإتفاق على أن يتصل الحريري بعون وقد تمّ ذلك وقال الحريري لرئيس الجمهورية إنه يرغب بتأجيل الإستشارات أسبوعاً لأنه يريد إقناع بعض الكتل بالتصويت له وأبرزها كتلة “القوات” فأجابه الرئيس إن هذا الأمر “يحتاج إلى الخميس وليس أسبوعاً لأننا ندخل فترة الأعياد”.
وتشير المصادر الى أنّ الرئيس إستجاب لطلب الحريري، وهذه هي المرة الثانية التي تؤجّل فيها الإستشارات بناء على طلبه. وإذ تؤكّد أن موعد الإستشارات ثابت، فهي تنفي حصول أي إتصال أو تنسيق مع “القوات” بشأن موقفها الأخير، بل إن الكتل هي من تتواصل في ما بينها. وتصرّ المصادر على أن كل ما يُحكى عن خرق للدستور هو في غير مكانه لأنّ رئيس الجمهورية يؤكد للكتل أن عليها ان تسمّي أو تمتنع عن التسمية ولا وجود لما يُعرف بتجيير التسمية للرئيس.
وعما إذا كان رئيس الجمهورية سيسير باستشارات لا توافق عليها كتلتا “القوات” و”التيار الوطني”، تدعو المصادر إلى انتظار نتائج الإستشارات وما سيحصل يوم الخميس وهل سينجح الحريري في المهمة التي قال إنه سينفذها، والرئيس أصلاً ملتزم بالدستور وبنتائج الإستشارات.
وأمام كل هذه الوقائع، يبقى الخوف من أن تكون البلاد دخلت أزمة حكم تُضاف إلى الأزمات الحكومية والمعيشية والإقتصادية التي تعصف، فلا يمكن تخطّي موقف الطائفة السنية ولا يمكن بالمقابل تخطّي رأي المكوّن المسيحي بغضّ النظر عن الإختلاف في خلفيات “القوات” و”التيار”، في حين أن الشارع الثائر لم يعد مقتنعاً بوعود أهل السلطة التي لم تنتج حلولاً حتى الآن.