في مثل هذا اليوم منذ 5 سنوات، قُرعت أجراس الكنائس في كل لبنان مُهلّلةً لإنهاء صراع الإخوة الذي دام نحو 28 عاماً مخلّفاً وراءه دماراً ما زال المجتمع المسيحي يدفع ثمنه حتى اليوم.
لا يمكن قياس الظروف المرافقة لتلك المرحلة على ما يحصل الآن، حينها كانت البلاد تعيش فراغاً رئاسياً وسط سريان مقولة أن الرئيس ميشال سليمان هو آخر رئيس مسيحي في لبنان والشرق.
في شتاء 2016 كانت أكبر قوّتين مسيحيّتين خارج القرار الرئاسي، بعدما رشّحت “الترويكا” التي حكمت لبنان منذ عام 1992 والمؤلفة من تيار “المستقبل” والحزب “التقدّمي الإشتراكي” وحركة “امل”، رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية من دون الأخذ برأي الأكثرية المسيحية، لكن الأهم من كل تلك العوامل السياسية هو تحميل “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحرّ” مسؤولية إنهيار الوضع المسيحي والقول دائماً: “خلافاتكما تدمّرنا”.
لم يكن “إتفاق معراب” من دون أسس سياسية وسيادية، إذ إنّه وُقّع تحت راية البنود العشرة، وأبرز ما جاء في تلك البنود هو تأكيد الإيمان بلبنان وطناً نهائياً سيّداً حرّاً، وبالعيش المشترك وبالمبادئ التأسيسية الواردة في مقدّمة الدّستور، واحترام قرارات الشرعية الدولية كافّة والالتزام بمواثيق الأمم المتّحدة وجامعة الدول العربية، وضبط الأوضاع على طول الحدود اللبنانية – السورية في الاتجاهين، وعدم السماح باستعمال لبنان مقرّاً أو منطلقاً لتهريب السّلاح والمسلّحين، وضرورة التزام سياسة خارجيّة مستقلّة بما يضمن مصلحة لبنان ويحترم القانون الدّولي، وذلك بنسج علاقات تعاون وصداقة مع جميع الدّول لا سيّما العربيّة منها، مما يحصّن الوضع الدّاخلي اللبناني سياسيّاً وآنيّاً ويساعد على استقرار الأوضاع، وكذلك اعتبار إسرائيل دولة عدوّة والتمسّك بحق الفلسطينيين بالعودة الى أرضهم ورفض التوطين واعتماد حلّ الدولتين ومبادرة بيروت 2002، والعمل على تنفيذ القرارات التي تمّ التوافق عليها على طاولة الحوار الوطني، وضرورة إقرار قانون للانتخابات يُراعي المناصفة الفعلية وصحّة التمثيل بما يحفظ قواعد العيش المشترك ويشكّل المدخل الأساسي لإعادة التوازن الى مؤسسات الدولة.
من الجيّد في مكان التذكير بأهمية هذه البنود التي تكلّلت بتوقيع كل من الوزير السابق جبران باسيل والدكتور سمير جعجع، والتي على أساسها رشّحت “القوات” العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية، واعتُبرت هذه البنود أساساً لحلّ المشكلة الراهنة التي يعاني منها لبنان، والتي أدخلته في عزلة عربية ودولية.
وترى أطراف مسيحية محايدة أن أي مصالحة مسيحية أو وطنية تنال مباركة الكنيسة والمسيحيين واللبنانيين، لأن زمن الإقتتال الداخلي يجب أن ينتهي إلى غير رجعة، وإذا كان هناك أحد الأطراف شذّ عن “إتفاق معراب” أو أن الصراعات بين الإخوة جعلته غير قابل للتطبيق، فهذا لا يعني أن الإتفاق غير صالح ولا يشكّل ببنوده أساس عمل للمرحلة المقبلة بالنسبة إلى السياسة الداخلية والخارجية.
لا ينكر أحد الجهود الكبيرة التي قام بها كل من النائب إبراهيم كنعان والوزير السابق ملحم رياشي في تلك الفترة، والتي كانت محط آمال اللبنانيين وفسحة جديدة رأى كثر من خلالها بادرة خير لطي الخلافات المسيحية، لكن جهود الرجلين ضاعت سدى بعد وصول العماد ميشال عون إلى كرسي بعبدا، وتفرّد باسيل بالحكم وتنفيذه أجندته الخاصة بحسب التأكيدات “القواتية”.
ويوجد داخل “التيار الوطني الحرّ” إنقسام كبير في الرأي، فهناك نواب ومسؤولون “برتقاليون” يؤيدون العودة إلى مضمون “إتفاق معراب” وعدم الدخول في صراع مسيحي جديد، ويرفضون ما يقوم به باسيل، في حين أن هناك قسماً آخر يُساير باسيل ويريد تصفية الحسابات مع “القوات” وتحميلها مسؤولية فشل الإتفاق “نظراً إلى السلوك الذي اتبعته في مجلس الوزراء”، ويذهب بعضهم بعيداً في تحميل “القوات” مسؤولية “فشل العهد”.
وعدا عن البنود السياسية، يوجد أفرقاء كثر هاجموا “اتفاق معراب” واعتبروه اتفاق إلغاء وتقاسم حصص، خصوصاً بعد نشر “القوات” بنود هذا الإتفاق.
وفي هذا السياق، يتفق “القواتيون” و”العونيون” على التأكيد أن الإتفاق لم يكن لتقاسم حصص، ويشرحون ذلك قائلين: بعد البدء بتطبيق “اتفاق الطائف” سوريّاً، خرج المسيحيون من الحكم والإدارة وسُجن الدكتور جعجع ونُفي العماد عون، وبعد خروج الإحتلال السوري لم يعد التوازن المطلوب، فظلّ الرئيس بري والرئيس الحريري والوزير جنبلاط، يعينون النواب والوزراء المسيحيين والموظفين في الإدارة، فكان لا بدّ من موقف موحّد يُعيد التوازن داخل إدارات الدولة، من هنا أتى بند استرداد الحصة المسيحية تحت قاعدة الكفاءة والنزاهة إلى حين إقرار وتطبيق الدولة المدنية والعلمانية وإخراج الوظائف من إطارها الطائفي، فهل هذه جريمة؟ وأين الإلغاء في ذلك؟ فهل كان بمقدور المعترضين المسيحيين والمزايدين على هذا البند تعيين موظف؟ أو كم كانت حصتهم من التعيينات؟ أو أن الإتفاق كان ينص على “تشليح” المسيحيين الذين لا يدورون في فلك “القوات” و”التيار” موظفين والإستئثار بهم؟ فجميعنا كنا خارج الإدارة وكان لا بدّ من وقفة تجاه الإجحاف المسيحي، وهذا ما حصل خلال إقرار قانون الإنتخاب عام 2017 والذي أعاد صحة التمثيل المسيحي بدرجة كبيرة.
يوجد رأي عام مسيحي يُحمّل باسيل مسؤولية نسف “إتفاق معراب” وضرب عهد عون، في وقت يرى قياديون في “القوات” أن حزبهم لو لم يقدم على هذا الإتفاق لكان حُمّل مسؤولية عدم إنتخاب عون وتنفيذ برنامجه الإصلاحي الذي ينقذ البلد، وكذلك اتهام “القوات” بأنها تشق الصف المسيحي، وكان عون تحوّل إلى بشير الجميل آخر، بينما الحقيقة أن “القوات” كانت تبني آمالاً على ما تم الإتفاق عليه، لكن “التيار الوطني الحرّ” فشل فشلاً ذريعاً في الحكم وانتهت تلك “الأسطورة البرتقالية” التي أخذت المسيحيين إلى خيارات تاريخية ووجودية ليست خياراتهم، وربطتهم بالمحور السوري – الإيراني، لذلك فإن النجاح في فضح هذا الخيار يُعتبر إنجازاً بحدّ ذاته، مع أن الهدف كان نجاح العهد وتحقيق الإصلاح الذي كان يعد به عون منذ العام 2005، والذي ظهر أنه كلام بكلام. من جهته ينتظر “التيار” السنة ونصف السنة الباقية من عهد عون، ويعرف أن لا عودة إلى “اتفاق معراب” الذي أصبح من الماضي وسط تأكّد معظم القيادات “البرتقالية” أن هذا العهد لن يُنتج شيئاً، في حين أن التململ يغلب على القيادات البرتقالية التي تعتبر أنه تم إهدار فرصة.
أراد “إتفاق معراب” تحقيق الإصلاح وإخراج لبنان من سياسة المحور وإصلاح الدولة وتحريرها من الدويلة وبناء دولة المواطنة، لكن عهد عون تحوّل إلى عهد انهيار مالي وخراب إقتصادي وتغلغل الفساد في المؤسسات، وساهم في تقوية الدويلة على حساب الدولة، وبات الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصرالله يُحدّد سياسات الدولة الداخلية والخارجية، ليبقى السؤال الأساسي “من أطلق النار على نفسه وفشّل العهد وطعن أخاه بالظهر؟”.