ذات يوم من العام 2016، عندما عون وجعجع وضعا اليد في اليد، وأبرما الاتفاق في معراب، كانت لكل منهما أهداف مختلفة. وفي الظاهر، كان سليمان فرنجية هو نقطة التقاطع: عون الحائز دعم «حزب الله» أراد اكتمال النصاب لانتخابه رئيساً، لأنّ الرئيس نبيه بري وآخرين تمسّكوا بخيار فرنجية. وكذلك، أراد جعجع إحباط انتخاب فرنجية. لقد اختار 8 آذار «التقليد» لئلا يصل «الأصلي». هذا في الظاهر، ولكن، في العمق، كان كل من عون وجعجع يخبئ أهدافاً أخرى.
إعتبر عون أنّ إبرامه اتفاقاً مع جعجع قوامه إشراك «القوات اللبنانية» في الحكم من شأنه أن يحبط أي محاولة لإقامة جبهة معارضة من فريق 14 آذار ضدّ العهد. ومن شأنه أيضاً أن يُضعف حال الاعتراض «القواتية» التي يمكن أن تستقطب الشعبية المسيحية ضدّ هذا العهد، على خلفية تحالفه مع «حزب الله». وثمة من يعتقد أنّ «الحزب» ارتأى أنّ تحقيق هذا الهدف يناسبه، فشجع عون على إبرام الاتفاق مع جعجع.
لكن جعجع كان يعرف مخاطر الاتفاق مع عون وعواقب منحِه التغطية التي يحتاج إليها ليستقوي. والعديد من أركان «القوات» شرحوا هذه العواقب بالتفصيل بين الجدران الأربعة. لكن جعجع ذهب إلى الاتفاق «مرغماً لا بطلاً». فأركان 8 آذار والرئيس سعد الحريري كانوا على استعداد للتوافق على فرنجية، على رغم معارضة القوى المسيحية الأخرى. واستنتج جعجع أنّ المغامرة مع عون تبقى «أقل خطراً» من المغامرة مع فرنجية.
ولكن، في العمق، كان جعجع يفكر في جعل الاتفاق مع عون مدخلاً إلى تحقيق «خرق تاريخي» في الحالة العونية. وفي رأيه أنّ المصالحة بين القوتين المسيحيتين تسمح للقواعد العونية بتغيير نظرتها إلى الحالة «القواتية». فيتمكن جعجع من استيعاب جزء كبير منها، على امتداد 6 سنوات. وفي العادة، عندما يتولّى طرف سياسي مقاليد السلطة يقع في الأخطاء ويصبح مسؤولاً عنها ويدفع الثمن.
وهذا الاستيعاب «القواتي» لبعض القواعد العونية، وللقواعد المسيحية عموماً، يمكن أن يسمح لـ»القوات» بأن تصبح الأقوى في نهاية العهد، وتكون هي المؤهلة تلقائياً لتمثيل المسيحيين في الحكم، متقدمةً على «التيار الوطني الحر»، خصوصاً إذا نجح الرهان على تراجع نفوذ «حزب الله» في البلد نتيجة تبدّل التوازنات الإقليمية والدولية.
في أي حال، فرح المسيحيون باتفاق معراب، لأنّ فيه سالت الشمبانيا هذه المرّة، بعدما سالت الدماء في بعض المراحل. لكن الطرفين اعتمداه لغايات تكتيكية: كلاهما أرادا كسب الوقت والتوسع على حساب الآخر. وعند وصول عون إلى بعبدا، سارع إلى تذكير الجميع بأنّ «حزب الله» هو حليفه الأول والأخير. ومن هذه المسلَّمة، يمكن الانطلاق إلى أي تفاهم آخر.
ولكن، في الواقع، تمكّن جعجع من كسب الرهان على خرق الحالة العونية خلال السنوات الـ6. فتيار عون تراجع شعبياً نتيجة فشل العهد. وأظهرت ذلك الانتخابات النيابية الأخيرة، فيما تقدّمت «القوات» وقوى الاعتراض المسيحية والمستقلون. وساهمت انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 في ذلك.
لكن بقاء المبادرة في يد «حزب الله» أطاح المكاسب التي حققها المعارضون. واليوم، إذ يخسر عون معركة التجديد لعهده من خلال النائب جبران باسيل، فإنّ «الحزب» نفسه لم يخسر، وهو في صدد السعي إلى إيصال المرشح الذي يريده إلى بعبدا، كما فعل في العام 2016.
اليوم، المعادلة المطروحة على جعجع وباسيل هي نفسها: كيف نمنع وصول سليمان فرنجية؟ وفيما يريد باسيل تكرار السيناريو الذي اعتمده عون للوصول إلى بعبدا في العام 2016، قرّر جعجع عدم الدخول في اللعبة من جديد، لأنّها عبثية وفيها من الخسائر ما يفوق الأرباح.
ومع عودة حجارة «الداما» إلى المواقع التي كانت فيها قبل 6 سنوات، يصبح منطقياً توقُّع وصول المرشح الذي يريده «الحزب» مرة أخرى. ويشكّل فرنجية مصلحة مؤكّدة لـ»الحزب»، لكنه ليس المصلحة الوحيدة على الأرجح، إذ يمتلك خيارات أخرى مضمونة، وأبرزها: الفراغ حتى إشعار آخر والرئيس «التوافقي».
ثمة من يقول: قد يفضّل جعجع استمرار الفراغ على تكرار نموذج عون، وقد يناور باسيل في الفراغ لعلّ الظروف التي تناسبه تتوافر. لكن الفراغ لا يزعج «حزب الله».
وكذلك، قد يكون مريحاً للجميع أن يختاروا شخصاً آخر، غير فرنجية، ومن خارج دائرة الأقطاب المتنافسين. فزعماء الموارنة أنفسهم يفضّلون أي اسم آخر على أن يأتي فرنجية ويمضي 6 سنوات في السلطة، يتمكن خلالها من توسيع حجمه السياسي.
وكذلك، إنّ بري وميقاتي وجنبلاط يفضّلون «التوافقي»، وقد يقتنع «حزب الله» بذلك أيضاً إذا تولَّد إجماع عليه. وعلى الأرجح، لن يمانع ما دام ممسكاً بزمام اللعبة في أي حال. لكن، المهم ألّا يأتي التخلّي عن فرنجية من جانبه، لئلا يُقال إنّه ينكث بوعوده للحلفاء.
إزاء هذا الحسابات، لم ييأس باسيل. وزيارة عون لحارة حريك بشفاعة مار يوسف، محاطاً بباسيل وكوادر «التيار»، بدا المقصود منها عدم قطع الخيط الرفيع بين «التيار» و»الحزب».
وما دام كرسي الرئاسة شاغراً، فإنّ باسيل لن يتعب من المحاولة، وسيواصل مساعيه لإقناع «الحزب» باختياره حصراً، وهو لن يوافق على دعم أي مرشح رئاسي آخر، قطباً كان أم شخصية توافقية، ومن داخل «التيار» كان أم من خارجه. بل سيواصل التصعيد والمزايدة برفض أن يسمّي «الآخرون» رئيس الجمهورية المسيحي.
عند هذه النقطة، يبرز الاختلاف جذرياً بين باسيل وجعجع الذي سيكون مستعداً للموافقة على أي شخصية يتمّ التوافق عليها، لأنّ لا حظوظ له شخصياً في الرئاسة، ولا لأي مرشح من 14 آذار. ولذلك، هو يكتفي بدعم المرشح التوافقي الأقرب إلى هذا الفريق، أي إنّه سيحاول البحث عن أهون الشرور، مرة أخرى.
وفي انتظار أن تتبلور الاتجاهات، قد ينتظر باسيل وجعجع وسائر القادة المسيحيين في خانة الفراغ، أكثر مما يتوقعون.