Site icon IMLebanon

إتّفاق معراب: ما له وما عليه، وماذا بعد؟

 

السؤال الأبرز الذي يتبادر إلى الأذهان على أثر المواجهة التي تجاوزت كلَّ السقوف بين “القوات اللبنانية” والوزير جبران باسيل يتمثّل بالآتي: ماذا بعد؟، وهل انتهاء اتفاق معراب يعني العودة إلى القطيعة، وهل انتهى فعلاً الاتفاق؟

دلّت التجربة منذ انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية أنّ حدود التفاهم بين “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر” لا تتجاوز حدود تنظيم الخلاف في ظلّ غياب النيّة لدى الوزير باسيل بترجمة الشراكة المنصوص عليها في التفاهم، وبالتالي منذ اللحظة الأولى تمّ التنصّل من الاتفاق الذي لم يطبّق منه شيء. وما أخذته “القوات” في بعض التعيينات لم يكن بموجب الاتفاق الذي ينصّ على المناصفة، إنّما بفِعل كونها من القوى السياسية المؤثّرة والتي لا يمكن تجاوزها بالمطلق.

وقد انتهى الاتفاق عملياً مع انتخاب عون رئيساً وليس كما يصوِّر البعض، على أثر الأزمة الأخيرة ونشر مضمونه الذي كان يجب أن يُنشر أساساً، وما نُشر هو الشق التطبيقي للشقّ السياسي الذي أعلن على مرحلتين في ورقة “إعلان النيّات” وفي ترشيح العماد عون في معراب. وهذا الشق تناوَل الأبعاد السيادية والإصلاحية والدولتية والاقتصادية والخارجية، وبالتالي النظرة إلى كلّ القضايا الوطنية والسياسية، ولذلك لا يمكن فصل الشق السياسي عن الشق التطبيقي الذي يجب أيضاً مقاربته بواقعية وبعيداً عن محاولات استغلاله لتصوير الأمور على غير حقيقتها.

هذا الاتفاق هو كلٌّ متكامل، والهدف منه أن يكون هناك مرجعية مسيحية داخل جسم الدولة، على غرار المرجعية الشيعية والسنّية والدرزية، وهذه المقاربة ليست رجعية كما تُحاول بعض الأصوات “التقدمية” انتقادَها، إنّما نظرة واقعية وضرورية وترتبط بصورة البلد وتكوينه، والوقائع دلّت إلى أنّ هناك حاجة ماسّة لمرجعية من هذا النوع بعد الخللِ الكبير في التوزان داخل هيكل الدولة، وبالتالي الهدف من هذه الخطوة ليس إلغاء هذا الفريق أو ذاك، فمن يستطيع مثلاً أن يتجاوز النائبَ السابق سليمان فرنجية في زغرتا أو غيرَه في أماكن أخرى، إنّما الهدف كان مزدوجاً: إشعار كلّ مسيحي بأنّ هناك مرجعية سياسية معنية بإدخاله إلى الدولة واحتضانه، وإشعاره بأنّ شأنه شأن غيره، والكلام هنا بشكل عام وليس عن كلّ موظف وموقع.

والهدف الثاني اعتماد آلية واضحة وشفّافة تُعيِّن الكفوء وتستبعد الفاشل، وبعيدة كلّ البعد عن كلّ منطق المحسوبيات والاستزلام، الأمر الذي يشكّل عدوى تنسحب على كلّ الطوائف الأخرى، لأنّ الأولوية يجب أن تكون لمنطق الدولة والمؤسسات، وبالتالي وظيفة المرجعية المسيحية ليس اختيار من يناسبها ويستزلم لها، إنّما اختيار الأكفأ وحمايته في ممارسة وظيفته التي عليه ممارستها لمصلحة الدولة وليس لأيّ شيء آخر.

وقد يكون الكلام عن تقاسمِ النفوذ غيرَ مستحبّ شعبياً، ولكن على أرض الواقع الأمور مختلفة تماماً، بدليل أنّ الاتفاق لم يطبَّق، وحتى لو طبِّق فهل يمكن مثلاً استبعاد حزب “الكتائب” عن الحكومة لو كانت كتلته من ٨ نواب، وهل يمكن استبعاد “المردة”، والوزير باسيل الذي رفض أن يقاسم “القوات” التي وقّع معها وثيقة تفاهم فتحَت طريق بعبدا أمام العماد عون لن يكون في وارد مقاسمة غيرها، وبالتالي هو نوع من ضمانة مبدئية.

وقد دلّت الانتخابات بنتائجها الشعبية أوّلاً والنيابية ثانياً إلى أنّ البيئة المسيحية مفروزة بين قوّتين أساسيتين وقوى أخرى حزبية أو مستقلّة بأبعاد مناطقية، وبالتالي مبرّرات التفاهم كانت وما زالت قائمة وفي محلّها، ولكن حسابات الوزير باسيل الرئاسية أطاحت بكلّ هذا التفاهم، فلو شكّلت مثلاً فرَق عملٍ مشتركة لكان بالتأكيد تمّ تجاوُز الكثير من سوء التفاهم في أكثر من ملف.

ولكن حتى سوء التفاهم لا يُبرّر القول إنّ “القوات” عارضَت سياسة العهد، فيما الهدف الأساس من هذا القول التنصّل من تفاهم معراب لا أكثر ولا أقل، لأنّ التباين بقيَ ضِمن حدود الملفّات الحكومية، وبماذا اختلف مثلاً موقف “القوات” عن موقف “حزب الله” في ملفّ الكهرباء أو التجنيس أو رفض المناقصات بالتراضي وغيرها من الملفات، وبالتالي لماذا لم يُتّهَم الحزب بما اتّهِمت به “القوات”؟ بكلّ بساطة لأنّ هناك إرادة واضحة للتنصّل من اتفاق معراب.

وأمّا رفضُ تأليف لجنة أو لجان مشتركة تنسيقية فعائدٌ إلى رفضِ الإقرار بمبدأ الشراكة، لأنّ آليةً مِن هذا النوع تحوّلهما إلى فريق عمل واحد، فيما الوزير باسيل لم يكن بهذا الوارد، بل في موازاة رفضِه التنسيقَ مع “القوات” سعى إلى التقارب مع الرئيس الحريري من أجل تطويق “القوات” وطنياً وسياسياً وحكومياً بإفقادها عمقَها الوطني الطبيعي، وما حصَل في الانتخابات كان جزءاً من هذا المشهد، إذ لو تحالفت “القوات” و”المستقبل” لكانت حصّتهما ارتفعت بحدود أربعة أو خمسة نواب، ولكان تكتل “لبنان القوي” انخفضَ إلى ما دون الـ٢٥ نائباً.

غير أنّ كلّ ما حصل يدخل ضِمن سيناريو واضح المعالم هدفُه تضخيم كتلة باسيل وتخفيض كتلة “القوات”، وهل من يتكلم بعد عن تحالفاته الغريبة والعجيبة في الانتخابات التي كلّ الهدف منها كان الخروج بأوسع تمثيلٍ ممكن، غير أنّ باسيل يدرك ضمناً أنّ حال التراجع تستدعي إعادة نظرٍ ببعض السياسات وإلّا سيتّجه وضعه نحو الأسوأ.

فتطويق “القوات” يكون عن طريق فكِّ تحالفِها مع “المستقبل” أوّلاً، وإضعافها في الانتخابات ثانياً، وتحجيمها في الحكومة ثالثاً، فيما المسار الحكومي وضَع الوزير باسيل أمام خيار من خيارين: إمّا أن يعود في هندسة التأليف إلى ما نصّ عليه الاتفاق والذي يقضي بالمناصفة بين “القوات” وبين “التيار الحر” بمعزل عن حجم كلّ طرف، كما كان عليه الوضع في الحكومة الحالية في ظلّ ٨ نواب لـ”القوات” وحوالي ٢٤ نائبا لتكتّل “الإصلاح والتغيير”، وبالتالي المناصفة زائد ٣ وزراء لرئيس الجمهورية، وفي حال أراد التنصّل من الاتفاق لا يمكنه احتساب حصّة رئيس الجمهورية من خارج تكتّل العهد، حيث من الطبيعي أن تكون حصته كجزء لا يتحزّأ من تكتله، وبالتالي على الوزير باسيل أن يختار.

و”القوات” تصِرّ على التمييز بين علاقتها بالرئيس عون وعلاقتها بالوزير باسيل، وتؤكّد أنّ تأييدها للعهد كعهد في السياسات والعناوين الوطنية الكبرى لا يعني تأييدَ باسيل بكلّ ملف يطرحه أو موقف يتّخذه، واللقاء بين الدكتور جعجع ورئيس الجمهورية كان أكثرَ مِن ناجح، وقد وضَعا خريطة طريق لترجمة مفاعيله، إلّا أنّ الصدمة جاءت بمواصلة الهجوم على “القوات” وكأنّ لقاء بعبدا لم يُعقَد.

وفي موازاة العلاقة الجيّدة مع رئيس الجمهورية فإنّ أيّ رهان على فصل العلاقة بين جعجع ورئيس الحكومة المكلّف وهم لن يتحقّق، والاهتزاز الذي شهدته علاقتهما كانت مِثل غيمة الصيف العابرة، والحريري يتمسّك إلى أبعد الحدود بمشاركة “القوات” و”الإشتراكي” في الحكومة، وغير صحيح أنه تخلّى عن دوره بإحالته العقدتين إلى رئيس الجمهورية، لأنّ الخلاف أو التباين ليس معه، بل بين باسيل من جهة وجعجع وجنبلاط من جهة أخرى، ولأنه ليس في وارد اقتراح تشكيلةِ أمرٍ واقعٍ تعطي جعجع وجنبلاط كما يريد باسيل، لعبَ دور الوسيط بين عون من جهة، وجعجع وجنبلاط من جهة أخرى، في محاولةٍ لتقريب وجهة نظر كلّ فريق من الآخر وسحبِ فتيلِ التصعيد، والتمهيد لتشكيل الحكومة العتيدة، ولكنّ تصعيد الوزير باسيل المتعمَّد أطاح كلّ شيء.

فهل ما تقدَّم يعني أنّ التأليف سيتأخّر وأنّ اتفاق معراب انتهى؟ الرئيس الحريري لن يؤلّف على حساب “القوات” و”الإشتراكي”، وأبواب الحلّ موجودة متى يُعاد فتح أبوابِ الحوار التي سيُعيد فتحها الرئيس المكلّف قريباً، ورفعُ السقوف لا يفيد، وإذا كان هناك من يريد اتّباع سياسةِ عضِّ الأصابع فسيأكل أصابعَه ندامةً هذه المرّة، وبالتالي من مصلحته الدخول في حوار واقعي وجدّي، خصوصاً أنّ ما تطرحه “القوات” و”الإشتراكي” هو عين الواقع.

وأمّا لجهةِ اتّفاق معراب، فهو لم يطبّق أساساً، وما حصَل، على رغم سلبياته، يمكن توظيفه بالاتّجاه الإيجابي عن طريق إعادة العمل بهذا الاتفاق وتطبيقه بنصّه وروحه، وعلى رغم أنّ هذا الأمر مستبعَد جداً، إلّا أنّ العلاقة بين “القوات” والوزير باسيل سيَحكمها وجودهما تحت سقف حكومة واحد، وبالتالي تعاونُهما على القطعة كما كان يحصل، وقد دلَّ الاشتباك الأخير إلى أنّ باسيل لا يستطيع أن يذهب بعيداً، وأنّ سقف الخلاف يتمثّل بما وصَلت إليه الأمور نهاية الأسبوع الماضي، والحوار بينهما يمكن أن يعود في أيّ لحظة يدرك فيها باسيل ما تدركه “القوات” أساساً أنّ أحداً لا يستطيع أن يحسم سياسياً على الآخر، وبالتالي الطريق الوحيد لمصلحتهما ومصلحة المسيحيين واللبنانيين تنظيمُ خلافهما، ولا يجوز أن يكون التبريد السياسي عنوانَ المرحلة وطنياً ويطبّق بين كلّ القوى السياسية باستثناء المعارك التي يفتحها باسيل حيناً في الداخل المسيحي وأحياناً على المستوى الوطني.

فمشهد الصراع والخلاف لن يبدّل شيئاً في مسار التأليف أو العلاقة بين “القوات” و”التيار”، بل المسار الصراعي يمكن أن يشكّل أحياناً فرصةً لتوليد الحلول والمخارج التي قد تبدأ بالحكومة ولا تنتهي بتنظيم الخلاف بين “القوات” والوزير باسيل، في ظلّ استبعاد إعادةِ إحياء العلاقة وما نصَّ عليه التحالف ربطاً باستراتيجية باسيل الرئاسية، ولكنّ “توازن الرعب” الذي يفرض نفسَه يشكّل حاجةً إلى تنظيم الخلاف، كما أنّ الحاجة إلى الاستقرار السياسي تفرض نفسَها من أجل انطلاقةٍ واعدة للمرحلة الثانية من عهد الرئيس عون بعد تشكيل الحكومة العتيدة، حيث إنّ فتح المواجهاتِ كما حصل ويحصل يشكّل المعرقل الأوّل للعهد.