فجأة انقلبت الأمور رأساً على عقب ودارت الارض دورة سريعة كادت تطيح بالتسوية الرئاسية التي حمت العهد والحكومة فصارت التسوية مهددة بصاعق التفجير الذي هدد بفتحه وزير الداخلية نهاد المشنوق في وجه وزير الخارجية جبران باسيل ومن ورائه رئيس الجمهورية بعدما قاطع المشنوق الرئاسة الاولى بعدم المشاركة في زيارة فرنسا، ومن خلال تصويب المشنوق على العهد وحلفائه ملمحاً الى سقوط التسوية الرئاسية واعتبار لقاء المعلم باسيل اعتداء على رئاسة الحكومة. هذا التصعيد ما كان ليكون بالصدفة او بكبسة زر وفق اوساط سياسية متابعة كما انه ليس بمعزل عن مجريات الاحداث الداخلية والاجندات الإقليمية المتحركة، فرئيس الجمهورية على اعقاب زيارة تاريخية الى إيران ومواقف العهد تصدح على المنابر الدولية دعماً لحزب الله وسلاحه ورفضاً للتوطين والمقربين من الرئاسة الاولى يرسمون خريطة الطريق لاعادة النازحين الى سوريا ولو كلف الامر تنسيقاً مع النظام السوري قد يزعج البعض داخلياً لكنه حتمي وضروري لتفادي قنبلة النازحين والتلميحات الى توطينهم في مناطق استضافتهم الامر الذي لا يمكن ان يقبل به العهد الجديد.
هذه الحملة غير المسبوقة او التوتر الأول بين التيار الوطني الحر وتيار المستقبل منذ التسوية الرئاسية ليس وفق الاوساط وليد ساعته او نتيجة لقاء في نيويورك تناول موضوع النازحين بل هو مرسوم ومعد بدقة بهدف التشويش على المسيرة السياسية للعهد الذي يقود السفينة اللبنانية وسط عواصف المناطق وبعد انجاز القضاء على الارهاب الذي ريّح الاجواء الداخلية وخفف من وطأة مسلسل الارهاب المتمادي، كما لا يمكن ان لا يكون بمعزل عن ظروف هيأت له وصلت الى حد توتير الاجواء خصوصاً ان ثمة من بدأ يروج لاستقالة رئيس الحكومة على خلفية رفض التطبيع مع نظام الأسد.
وفيما المفارقة انها المرة الاولى التي تتأثر بها العلاقة بين الرئاسة الاولى ورئاسة الحكومة فيما العلاقة تتكهرب دوماً بين بعبدا وعين التينة او بين وزراء التيار الوطني الحر والقوات، فالمفارقة تضيف الاوساط، ان العلاقة غير المسبوقة بين البرتقاليين والتيار الأزرق شهدت تبدلاً في معالمها وملامحها، وفيما كان اللوم يرافق مسيرة الحريري من اليوم الاول الذي شبك فيه يده مع بعبدا الى درجة «تخوين» الحريري من فريقه السياسي، فان الواضح ان هذا الفريق استجمع شتاته والتقط انفاسه مؤخرا ليلتم البعيدين والقريبين حول رئاسة الحكومة ليعود ايضاً وزير الداخلية لممارسة دوره كاحد صقور 14 آذار الاساسيين ملوحاً بسيف رفض التطبيع مع النظام السوري.
اللافت ايضاً هو التفاف معراب حول رئيس الحكومة برأي الاوساط، وتغريد الحريري وجعجع على الموجة ذاتها منذ فترة وتحديداً من احداث عرسال الى اليوم بشكل متناقض ومختلف عن تغريدات بعبدا. خلاصة هذا الموقف ان الحريري «فرمل» الى حد ما، وفق تعبير الاوساط، اندفاعته العمياء نحو الرئاسة بحجة التنسيق مع نظام الأسد، فيما الواضح انه يعزف مع معراب على موجة المواقف السياسية نفسها، وكأنه لا يزال الحاضن لـ14 آذار عندما يتعلق الأمر بالنظام السوري محاولاً الى حد ما حماية «حرسه» القديم وفريقه السياسي، ومن هنا كان دعمه قبل فترة لرئيس الحكومة السابق تمام سلام ولقائد الجيش جان قهوجي الذي ارسل اشارات من السراي حول ملف عرسال بان للدولة اسرارها.
وكان لافتاً وفق الاوساط اللقاء الذي جمع سمير جعجع برئيس الحكومة قبل فترة واستباقاً لجولة رئيس الجمهورية ووزير الخارجية الاميركية والتي كان فيها ملف العلاقة اللبنانية السورية الطبق الرئيسي كما تخللها مصارحة ومكاشفة في موضوع احداث عرسال وتحرير الجرود وتبعاتها، وزيارات وزراء 8 آذار الى سوريا وما سببته وما وصل الى مسامع معراب وبيت الوسط بان ثمة توجه جدي لفتح حوار مع دمشق، مما استتبع دق ناقوس الخطر وتسبب بكل هذه التداعيات.
واذا كان ثمة تناغم ليس جديداً لكن تم تفعيله وضخه بالاوكسيجين الحيوي بين معراب وبيت الوسط، لكن سقوط التسوية الرئاسية ليس مطروحاً، والحريري وفق الاوساط مدرك ان زعزعة العلاقة مع العهد لا تخدمه بعدما انجز ما انجزه من تموضعات، لكن الحريري المثقل بملف التطبيع مع النظام السوري وتحت وطأة جمهوره السني والآذاري السابق يجد نفسه ملزماً بأخذ قسط من المواقف قبل اتخاذ اي مبادرات.
وفي وقت يشير البعض بان ما يحصل في موضوع السلسة ليس بريئا وثمة من يضع افخاخاً للحريري ويحاول احراجه وهو ليس معزولاً عما يحصل في موضوع التنسيق مع السوريين لعودة النازحين، فان اوساط 14 آذار تحذر من تكرار نغمة التنسيق فالتسوية الرئاسية أنجزت لضمان الاستقرار الداخلي وحماية لبنان من عواصف المنطقة، وحينها تم تحييد الملفات الحساسة على غرار التنسيق مع سوريا على حدة وتأجيلها الى اوقاتها، لكن الاصرار على النغمة «التنسيق لاجل العودة» يضع التسوية على المحك.
واذا كان ما قبل التصعيد او التوتر بين التيار الوطني الحر والمستقبل يشير الى خوض المعركة الانتخابية معاً والى تحالفات انتخابية على امتداد الوطن فان السؤال كيف سيحصل مثل هذا التحالف خصوصاً مع عودة الخطاب السياسي الحاد من معراب والمستقبل الى زمن الاصطفافات السياسية وما قبل التسوية. إلا اذا كان المطلوب من المستقبل ومعراب التصويب على اللقاء بحد ذاته فقط لهز العصا في وجه اي محاولة اخرى او استباقاً لخطوات او اجراءات قد يقوم بها الفريق الآخر ولن يكون رئيس الحكومة قادراً على تحمل تبعاتها.
المفارقة في كل ذلك ان الحريري وجعجع ظهرا مؤخراً بصورة الحليفين السابقين في 14 آذار الذين لا يفترقان، تتوتر علاقتهما بموقف عرضي وسريع ومن ثم يلتقيان كما تقول اوساطهما وكأن ما حصل لم يحصل، فالحريري وجعجع تجمعهما روابط كثيرة قبل التسوية الرئاسية وبعدها، وهما نفذا انقلاب 14 آذار عندما قررا تسمية ميشال عون رئيساً، وهما اليوم الحليفان القويان للعهد، والمعارضان المشاكسان له حين يتعلق الموضوع بالنظام السوري او سلاح حزب الله.
فاللقاء بين الحريري وسمير جعجع كل فترة يدل على متانة تحالفهما وتشاورهما الدائم في كل الملفات، هذا ما يبدو واضحاً منذ اتفاقهما حول الانتخابات الرئاسية وفي العلاقة مع رئيس الجمهورية اليوم وفي قانون الانتخاب والتعاون في مجلس الوزراء. فحتى الساعة فان المسار السياسي بينهما خالي من الشوائب والعثرات، وثمة عناوين كثيرة تجمعهما من ألأمس حتى اليوم، حصرية السلاح بيد الدولة وسياسة النأي بالنفس وتحييد لبنان عن الخلافات السياسية والمقاربة المشتركة لقضايا المنطقة ورفض التطبيع مع النظام السوري.
يرى كثيرون في مستقبل علاقة القوات والتيار الأزرق آفاقاً لا حدود لها، فالتسوية الرئاسية التي اوصلت ميشال عون الى بعبدا وسعد الحريري الى السراي،لا تعني فك التحالف الانتخابي بين المستقبل والقوات وان تفاهم معراب وتحالف الثنائيتين المسيحيتين لا يعني ضرب المستقبل، واذا كانت التسوية حتمت على الحريري دفع أثمان في السياس، الا ان الحريري الذي يبدو مخيراً بين «السيىء والأسوأ في السياسة» يرفض المواجهة مع رئيس الجمهورية او الافتراق عن الحليف في معراب خصوصاً في الثوابت الاستراتيجية.
واذا كان الحريري انجز ذات يوم تسوية «لا بد منها» أوصلت ميشال عون الى بعبدا فان الحريري اليوم هو غير الحريري بالأمس بعدما انتقل من قيادة المعارضة الى السراي للعب دور وموقف رجل الدولة، بات الحريري على مسافة واحدة من الجميع هو مقتنع ان العلاقة مع ميشال عون تكسب في السياسة وعلى مستوى العلاقة الوطنية والاجتماعية ايضاً، فرئيس الجمهورية مشهود ومعروف بصلابته وهو لا يغير او يبدل في مواقفه الاستراتيجية بل هو باق على مواقفه وقناعاته ولم ينقلب لا على نفسه ولا على الحريري او جعجع. وبالتالي فان على رئيس الحكومة كما تقول الاوساط مراجعة كل هذه المعطيات او الحسابات قبل الوقوع في الخطأ المميت مجدداً.