يبدو أن الأزمات المتلاحقة التي تضرب ملف تأليف الحكومة ما تزال مستمرّة ولم يبرز أي معطى يدل على ولادة الحكومة قريباً حتى لو تمّ تكليف رئيس للحكومة اليوم.
عاد الشارع ليفرض نفسه مجدداً في قلب اللعبة السياسية، وانتفض عندما شعر أن هناك مؤامرة ما أو صفقة بين الطبقة السياسية التي ثارت الناس ضدها في 17 تشرين الأول. والملاحظ في حركة الشارع وتموجاته أنه يترك أهل السياسة يلعبون لعبتهم ويحاولون إبرام الصفقات فيما بينهم وكأن لا ثورة فعلية، وعندما يظنون أن صفقتهم ستسير تأتيهم الصفعة من الشعب، وبالتالي فإن تجاوز معطى 17 تشرين بات من رابع المستحيلات.
لم يمنع الإستعمال المفرط للقوّة في جل الديب، ومن ثمّ غزوة شباب الخندق الغميق وإعتداءاتهم على القوى الأمنية في الرينغ، وارتداد شرطة مجلس النواب والقوى الأمنية على الثوّار، من إستمرار الثورة، خصوصاً أن المطالب التي نزل من أجلها الثوّار لم تتحقّق بعد.
وفي حين تستمرّ الإحتجاجات ويتّجه نواب الأمة إلى بعبدا إلتزاماً بالإستشارات النيابية الملزمة، إذا لم يطرأ أي جديد يستوجب تأجيلها صباح اليوم مجدداً، لم تحسم بعض الكتل موقفها، ويبقى موقف تكتل “القوات اللبنانية” هو الأساس بعد إمتناع نواب “التيار الوطني الحرّ” عن تسمية الرئيس سعد الحريري.
وفي السياق، خرقت زيارة الوزير السابق غطاس خوري موفداً من الحريري إلى معراب عطلة نهاية الأسبوع، وقد جرى التأكيد على عمق التحالف بين “المستقبل” و”القوات”، لكن كل ذلك لم يؤدِّ إلى خروج موقف واضح من رئيس حزب “القوات” سمير جعجع يعلن صراحةً ترشيح الكتلة للحريري وإستعدادها لتسميته في الإستشارات الملزمة.
لا شكّ أن هناك عتباً وتباعداً بين “المستقبل” و”القوات” بسبب تراكمات المرحلة السابقة، وهذا الأمر ظهر أثناء عدم إعتراض وزراء “المستقبل” على تهميش “القوات” في تعيين أعضاء المجلس الدستوري، ومن ثمّ أثناء بداية الإنتفاضة الشعبية حيث سارعت “القوات” إلى تقديم إستقالتها من الحكومة وعدم إنتظار موقف الحريري، لكن الشعرة التي “قصمت ظهر البعير” بينهما كانت تحالف الحريري – باسيل والذي اختزل المشهد السياسي ووضع “القوات” على هامش اللعبة، وانتقاد الحزب للإدارة السيئة لهذا الثنائي في مجلس الوزراء.
وأمام كل هذه الوقائع، يحتاج الحريري الطامح للعودة إلى السراي إلى أصوات “القوات اللبنانية” وذلك لإعتبارات عدّة أبرزها أن عدد أعضاء تكتل “الجمهورية القوية” يبلغ 15 نائباً، ويحتاج الحريري إلى أن يُكلّف بأكبر قدر من الأصوات لا أن تكون تسميته هزيلة. ومن جهة ثانية، وبعد إتجاه “التيار الوطني الحرّ” إلى عدم تسمية الحريري، فإن الأخير يحتاج إلى ميثاقية مسيحية وبالتالي فإن أصوات “القوات” مهمة جداً من هذه الناحية. ومن أجل الوصول إلى قرار نهائي عقد تكتل “الجمهورية القويّة” إجتماعاً موسعاً بعيداً عن الإعلام دام لساعات متأخرة من ليل أمس من أجل إتخاذ القرار المناسب، واللافت أن الجميع ظنّ أن هناك رأياً واحداً داخل التكتل وهو تسمية الحريري لتأليف حكومة إختصاصيين خصوصاً بعد زيارة خوري لمعراب، ولكن كان هناك إنقسام كبير في الرأي ما فسّر تأخر الإجتماع حتى ما بعد منتصف الليل.
وما دفع عدداً من نواب “القوات” إلى الإنقسام في الرأي هو وجود وجهتَي نظر، الوجهة الأولى تقول بتسمية الحريري نظراً إلى عدم ترك البلاد تعاني من فراغ إضافي، وبأن الحريري أقرب سياسياً وعلى المستوى الإستراتيجي من “القوات”، وأنه يتعهّد بتسمية حكومة إختصاصيين مثلما يطالب الحزب وأن المرحلة تفرض مثل هكذا قرار.
لكن هناك عدداً من نواب الحزب كان يرفض رفضاً مطلقاً إعادة تسمية الحريري، وقد علّل هؤلاء أسباب رفضهم نظراً إلى وجود جوّ عام داخل البيئة القواتية أولاً والبيئة المسيحية ثانياً مع الثورة وضد إعادة إنتاج المنظومة ذاتها.
ويعتبر هؤلاء النواب أن الحريري كان شريكاً لباسيل طوال المرحلة الماضية وهما يتحمّلان مسؤولية كبيرة في الوصول إلى الأزمة الحالية التي وصلنا إليها وحاولا عزل “القوات” لتمرير مشاريعهم الخاصة في الحكومة، لذلك فإن إعادة تسميته هي ضرب للثورة الشعبية في الصميم.
وينطلق النواب من حسابات شعبية أيضاً، فإقدام “القوات” على تسمية الحريري سيُفقدها جزءاً من الشعبية لأن الشارع سيحاسبها على هذا الخيار، وكل التعهدات التي قد تطلق قبل التكليف بتشكيل حكومة إختصاصيين مستقلة قد تذهب أدراج الرياح عند التأليف الذي يُخضع الرئيس المكلّف لإبتزاز القوى السياسية التي تملك الأكثرية.
ويفصل نواب “القوات” بين موقفهم من عدم الحماسة لتسمية الحريري وموقف باسيل من ذلك، فهم مع حكومة تكنوقراط مستقلّة، بينما مشكلة باسيل مع الحريري هي في تقاسم السلطة.
وما زاد من تمسّك بعض النواب القواتيين بعدم تسمية الحريري هو أحداث السبت التي بدّلت مزاج الشارع وأظهرت بعض التصرفات الخارجة عن المألوف مع إستمرار عمليات القمع.
لكن، على رغم الرأي المؤيّد للتسمية والمناهض لها والنقاش الذي دار في معراب، تبقى كلمة السرّ بين يديّ كتلة “الجمهورية القوية” التي سيُعلن عنها اليوم أثناء الإستشارات النيابية.