نجاح دونالد ترامب في دخول البيت الأبيض كان إشارة إلى أن شعوب الغرب ضاقت بجمود أنظمتها السياسية والاقتصادية والثقافية وبتكرار الوجوه المعبّرة عن هذه الأنظمة. شعور عام بالاختناق لم يتنبّه له أحد إلى أن اخترق الأميركيون جدار الصمت. لم تكن فرنسا في حاجة إلى تكرار التجربة الأميركية، فلكل من البلدين شخصيته، لذلك فضّل الفرنسيون طريقة إيمانويل ماكرون على تكرار التجربة الأميركية عبر شخصية مارين لوبن الشعبوية.
طريقة ماكرون؟
الفوز في انتخابات الرئاسة يشير إلى هذه الطريقة من دون أن يوضحها، وسيد الإليزيه الجديد سيحتاج وقتاً لبناء هيكلية حكم على أنقاض أحزاب كبيرة تراجعت بعدما فقدت صلتها بالجمهور، وعلى ترهُّل نظام سقط في تكرار الشعارات والعناوين فاقداً القدرة على الابتكار. صار مطلوباً من ماكرون وناخبيه العابرين للأحزاب وللأفكار السياسية والاقتصادية والثقافية أن يبنوا نظاماً جديداً، أو للتواضع: أن يجددوا الديموقراطية الفرنسية، التي أضعفتها صراعات اليمين واليسار والمسؤوليات الأوروبية المتعاظمة التي ألقت على المواطن عبء انتمائه إلى القارة العجوز بعدما تخلص أو يكاد من عبء مسؤوليات المستعمرات السابقة.
نحن أمام الخطوات الأولى في جمهورية ماكرون أكثر من كوننا أمام حلقة جديدة في الجمهورية الخامسة. وليس ضرورياً الالتفات إلى الضجيج اليساري المتزمّت والعالمثالثي بأن ماكرون هو ربيب جاك أتالي ومؤسسات الاتحاد الأوروبي ومن قبلهما روتشيلد ومن بعدهما فرنسوا هولاند. هذه الشخصيات والجهات لا يكفي دعمُها لـ “صناعة” رئيس وتيار سياسي، فثمة فراغ ملأه ماكرون، وسيحاول رئيساً أن يكرّس تياره السياسي المنسوب إلى الوسطية، فقط لأنه خارج اليمين واليسار بمندرجاتهما المعروفة اعتدالاً وتطرفاً. الوسطية اسم موقّت لتيار سياسي فرنسي يحل محل تيارات شاخت وفقدت حيويتها، وسيتحدد اسمه عندما تكتمل هيئته.
ليس ماكرون صنيعة “مؤامرة” الاتحاد الأوروبي والليبرالية الاقتصادية. إنه محاولة لتجديد النظام الديموقراطي الفرنسي، والمحاولة صعبة ومعقّدة لكنها ضرورية للحفاظ على فرنسا ورسم مسارها السياسي والاقتصادي والثقافي في المستقبل المنظور. المؤكد أن الخطوات الأولى تتم على أرض صلبة، لأن الفرنسيين بانتخابهم ماكرون وبامتناع ربع المقترعين عن التصويت، وجّهوا رسالة إلى أنفسهم وإلى العالم يعارضون فيها اليمين المتشدّد ويرون فيه صورة لفاشية دفعوا ثمناً كبيراً في مناهضتها بعدما استطاع النازي احتلال فرنسا في الحرب العالمية الثانية، ووجد في حكومة “فيشي” نصيراً له، خصوصاً أنها كانت تحظى بشعبية لا يمكن نكرانها.
سيجهّز ماكرون كادرات سلطته التنفيذية في الفترة القصيرة الفاصلة عن الانتخابات البرلمانية الشهر المقبل. وستحدد القوى الممثلة في البرلمان مدى التسهيلات أو الصعوبات أمام فرنسا/ ماكرون في الطريق إلى تجديد الديموقراطية. نحن أمام ثورة الحرية والإخاء والمساواة ودولة الدستور المدني، صاحبة التجارب الناجحة في الجمع بين الرأسمالية المتحرّكة والمبدعة والضمان الاجتماعي الذي يؤمّن الحد الأدنى لعيش المواطن مهما كان وضعه في سوق العمل.
الحزب الاشتراكي يتراجع إلى ما فوق الصفر بقليل واليمين يتكسّر نتيجة الصراعات العنيفة لنجومه السياسيين الطامحين إلى الرئاسة، واليسار لم يخرج من نتائج انهيار التجربة السوفياتية ومن ارتباكه تجاه الاتحاد الأوروبي، إلى حد أن جان لوك ميلونشون التقى مع مارين لوبن على هدف انسحاب فرنسا من الاتحاد: أحزاب مترهلة تضع تجربة الرئيس ماكرون في دائرة الضوء وتدفع الفرنسيين إلى المشاركة في البحث عن أفق جديد وواقعي لنظامهم السياسي، مع الأخذ في الاعتبار متغيرات الداخل والعلاقات مع أوروبا والكتل الأساسية الأخرى في العالم، الصديقة والمناهضة، ومن هذه الكتل عالمنا العربي المليء بالأحداث الدموية والتحديات التي تستدعي تدخُّلات سياسية، وحتى عسكرية من القوى الكبرى، بما في ذلك فرنسا.
لا جديد في مواقف باريس من مشكلات العالم العربي، لكن فرنسا التي تجدّد نظامها وتحفظ استقرارها ضرورية للأمن والاقتصاد في أوروبا وفي محيطها القريب، عرب شرق البحر المتوسط وجنوبه.