حسمها نهاد المشنوق: لا مكان لبهاء الحريري في اللعبة السياسية. لا بل قال أكثر من ذلك: لا شيء اسمه بهاء الحريري في السياسة في لبنان. فجأة، سقطت كل الفواصل، ووقف النائب البيروتي في مقدِّم المنظومة الدفاعية عن زعامة الرئيس سعد الحريري. صحيح أنّه لم يقلها، لكنه تصرّف على هذا الأساس.
لا أحد يشكك في دقة بوصلة وزير الداخلية السابق الاستراتيجية. هو الأكثر اتقاناً في قراءة اتجاهات عقاربها. ولذا قد تكون “تمريرته” هذه مجرّد موقف يسجّل للتاريخ ولنفسه انسجاماً مع قناعاته، ولا يسعى من خلاله إلى توجيه رسائل ودّ لرئيس الحكومة السابق. وقد تكون المسألة حمّالة أوجه.
لا أحد قادراً على حسم المسألة سلباً أو ايجاباً، طالما أنّ المشنوق يبلغ سائليه أنّ الخلاف مع الحريري ليس شخصياً وإنما سياسي بامتياز. ولذا قد لا تجد تلك الرسائل العابرة للمقار أي صندوق بريد يحولها إلى مبادرة مصالحة جدية، خصوصاً أنّ نعيه لـ”البهائية” السياسية تزامن مع دعوته “جمهور رفيق الحريري إلى إعلان المقاومة السياسية للدفاع عن رئاسة الحكومة”. ما يعني اصراره على تجاوز “هدنة” الحريري غير المعلنة تجاه حكومة حسان دياب.
نظرياً، هي فرصة جدية ليجلس الحريري والمشنوق وجهاً لوجه ويعيدان فتح دفاترهما من جديد. ولكن الجرة مكسورة بينهما، والخلاف أعمق من أن يعالج بجلسة على فنجان قهوة لغسل القلوب. حجم الاشتباك حرق جسور 11 عاماً أمضاها النائب البيروتي في كتلة “المستقبل النيابية”، وتحديداً منذ 2009، نصفها متربّعاً على كرسي وزارة الداخلية والبلديات، بين شباط 2014 وشباط 2019.
بالنسبة لوزير الداخلية السابق، التغيير الحقيقي يكون في كيفية صناعة القرار. راكم في عقله رزمة ملاحظات وانتقادات لم يحجبها عن المنابر. قالها في الكثير من المناسبات واللقاءات. هو مسار التسوية الرئاسية، التي كان المشنوق أول من وصفها بالعاقلة المتاحة في حينه، لينقم عليها بعد انحرافها بشكل لم يعد مقبولاً بالنسبة للكثيرين، ومنهم النائب البيروتي.
يخبر المشنوق في مجالسه أنّ الحريري بالغ في تدليل تلك التسوية وفي تغنيج شركائه فيها، وتحديداً رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل على حساب الوجدان السني وموقعه السياسي، وهو يقول إنّ تجربته الشخصية مع الرئيس ميشال عون تثبت أنه بالمواجهة يمكن حماية الحقوق، لا العكس من خلال الخضوع وفائض التنازل.
ولكن بالنسبة للحريري، المسألة تتجاوز الخلاف السياسي إلى طموح المشنوق غير المحدود، ولذا تراه لا يقتنع بكل المبررات السياسية التي يسردها وزير الداخلية السابق. ولو أنّ للأخير حجته الدفاعية بأنّه قدم رأيه بالادارة السياسية للعلاقة مع العهد مرتين خلال ورقتين مكتوبتين، ولم يوفره الى حين خروجه من مبنى الصنائع، كما لم يوفر استقالته حين بدت جدران التغيير أمامه مقفلة.
نظرياً هي فرصة، ولكن عملياً يتصرف الحريري على أنّ ما بينهما أكبر من خلاف على التسوية الرئاسية. بالأساس، يعاني رئيس الحكومة السابق من نزف في شرايين الثقة تجاه الآخرين، كل الآخرين، ولم يعد يشعر بالأمان السياسي، ولذا يتحسس من أي كلمة قد تطال سلوكه بدليل، مثلاً، المصالحة التي تمت مع الوزير السابق أشرف ريفي والتي لم تعمر أكثر من أسابيع معدودة. ولذا تبدو كل الطرقات المؤدية إلى بيت الوسط، محفوفة بالاختبارات الصعبة.
ومع ذلك، يرفض أحد نواب “كتلة المستقبل” الاستفاضة في التعليق على كلام المشنوق الأخير، مشيراً إلى أنه في هذه الظروف الاستثنائية التي تشهدها البلاد والمرشحة على مزيد من التدهور، تجعل من كل كلمة طيبة، في محلها، لافتاً إلى أنّ سعد الحريري لم يعد مجرد وريث للحريرية السياسية بعدما أكسبته التجربة والخبرة مناعة ونضجاً، وساعدت على صياغة هويته السياسية كأحد مكونات الحالة اللبنانية، وإن كان الفصل بينه وبين إرث رفيق الحريري مستحيلاً.