بمعزل عن الكلام المعلن، عاد ماكرون إلى باريس بعدما «بقَّ البحصة» بالكامل في وجه الطاقم السلطوي. والخلاصة التي انتهى إليها هي: لا أمل في جماعة السلطة الذين ينادون بالوطنية ويطلقون الوعود بالإصلاح، لكنهم فاسدون ويرهنون البلد للخارج ويدمِّرون الدولة. والأمل الحقيقي يبقى في الناس الذين كفَروا. وهؤلاء الناس أوصلوا رسالتهم إلى ماكرون: لا تُجرِّبوا المجرَّب. هؤلاء لن يسيروا بالإصلاح ولو «على قطع رأسهم». إنّهم يكذبون عليكم ويكسبون الوقت فقط. إذا أردتم فعلاً إنقاذ لبنان… ساعدونا للتخلّص منهم. اقبعوهم!
ليس مستغرباً أن يجد ماكرون، في مئوية لبنان الكبير، أنّ مزاج الكثير من اللبنانيين قد تبدَّل. بالتأكيد، هناك من يُراجِع تجربة ذاك «الكبير» بنجاحاتها وفشلها، ولكن أيضاً بفسادها الكبير. وبالتأكيد، هناك مَن يراجع تجربة «انفطام» هذا «الكبير» عن «أمِّه» الحنون.
في العام 1943، كان المزاج المسيحي هو الأقرب إلى استمرار «الرضاعة الطبيعية» من فرنسا. وكان المسلمون يفضّلون الرضاعة من «الثدي العربي». وأما اليوم، فيمكن استنتاج مزاج مختلف في وُجْداناتِ الطوائف كلها، ويمكن إجراء استطلاع يشمل الجميع: هل أنتم نادمون على أنّ أجدادكم توافقوا على إنهاء الانتداب الفرنسي أو لا؟
مناسبة هذا السؤال هي الكمّ الهائل من الرسائل والعرائض التي تبلّغها الرجل، ومنها تلك التي تحمل تواقيع أكثر من 50 ألف لبناني، ومفادها الآتي: نريد العودة إلى الانتداب الفرنسي!
الواضح أنّ فرنسا لم تعد اليوم «غرامَ» المسيحيين وحدَهم. فكثير من اللبنانيين، المسلمين أيضاً، يقولون: علينا الاعتراف بفضل هذا الانتداب الحضاري «الناعم»، الذي به اغتنى لبنان ثقافياً وفنياً وعلمياً، وانفتح بجرأة ورقيّ على العالم المتحضّر.
طبعاً، مِن المعيب أن يطمح شعبٌ مستقلّ إلى الانتداب مجدداً. ولكن، واقعياً، هناك مسيحيون ومسلمون يحلمون اليوم بالعودة إلى شيء من الحضارة، بدل الهمجية التي باتوا يعيشونها بفضل الجماعات التي تسيطر على السلطة. وفي أي حال، المزايدون بالردّ على المطالبين بالانتداب هم بمعظمهم عملاء الاحتلالات المتتالية ومرتزقة لدى الخارج والخوارج.
الذين أحاطوا بماكرون، في تجواله الفريد بين الناس الموجوعين، قارنوا ما فعله الرجل بما يفعله أركان السلطة هنا. سجَّلوا كيف كان يحتضن الناس ويتحمس للمساعدة الفعلية والإنقاذ، فيما بعض جماعة السلطة والسياسة هنا نزلوا بكامل عضلاتهم ومرافقيهم والزبانية إلى الشارع منفوخي الصدور… والرؤوس، وبعضهم بتعجرفٍ مقيت، وهرَبوا من الناس وتهرَّبوا من المسؤولية!
طبعاً، المطالبة بالانتداب تحمل طابعاً رمزياً. هي ليست سوى ردّة فعل على الفساد والاحتلالات. والمطالبون بالانتداب اليوم يريدون دولة حديثة وقوية، على أسس القانون لا غير، مزدهرة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً ومحترمة بين الأمم. وفي أي حال، لبنان تحت الاحتلال اليوم، والانتداب أفضل بكثير.
بعيداً من التصريحات العلنية، كان ماكرون واضحاً أمام المسؤولين: السلطة إما أن تُغيِّر سلوكها وإما أن تتغيَّر. وحتى اليوم، أثبتت أنّها لا تريد لا أن تغيِّر السلوك ولا أن تتغيَّر. وهذا ما سيدفع باريس إلى خيارات أخرى أكثر حزماً، وبالتأكيد ستظهر سريعاً. لا غطاء لكم بعد اليوم.
فصحيح أنّ فرنسا ليست العملاق الدولي القادر على تحريك العالم، ولكن الصحيح أيضاً أنّها إذا سحبت يدها ومنحت غطاءها لإجراءات دولية معينة، فإنّ دورها يكون حاسماً، بل مصيرياً للبنان.
مقياس التجاوب مع فرنسا سيكون التحقيق بالكارثة الأخيرة. فالحكومة وعدت بإيضاح ما جرى يوم الإثنين حداً أقصى. ولكن، بناءً على كل تجارب الفساد السابقة والحالية، يمكن القول بسخرية وبلا أمل: «إذا مش التَّنَيْن… الخميس».. ثم التَّنين ثم الخميس… ولذلك، الناس طالبوا ماكرون بتقديم المساعدات العينية والمباشرة إلى المتضررين، وعبر الهيئات والمنظمات، لا عبر جماعة السلطة المعتادين على النهب.
من ذلك مثلاً، ولئلا ينسى الناس، ليس واضحاً كيف وصل لبنان إلى المرحلة السوداء في «الكورونا»، وكيف، فجأةً، تكاسلت السلطة التي كانت بارعة قبل شهرين وقادت البلد إلى «صفر إصابة» ذات يوم في نيسان، وكيف صارت سلطةً فاشلة تتخبَّط و»يتخابط» أركانها بين اختصاص الداخلية واختصاص الصحة وسوى ذلك!
ما جرى في «الكورونا» يذكِّر بالحقيقة: السلطة الفاشلة والخبيثة في التصدّي للأزمات المالية والنقدية والاقتصادية والسياسية والأمنية، هل تكون حتماً فاشلة وخبيثة في «الكورونا» أيضاً؟
إذا لم يبادر المعنيون إلى خطة شاملة وطارئة، وتنفَّذ في ساعات، لا أيام، سيموت اللبنانيون على أبواب المستشفيات، أو ما بقي منها بعد كارثة المرفأ، بعد إعلانها تباعاً عن استنفاد الأمكنة. حتى المصابون ومرضى الطوارئ، بغير «الكورونا»، باتوا ضحايا أيضاً.
وبالمناسبة، لم يتضح هل صحيح ما قاله النائب الياس بو صعب عن مساعدات مالية تلقّاها لبنان من جهات ومؤسسات دولية، على نيّة «الكورونا»، ولم يظهر أثرٌ لها، وبينها 25 مليون دولار من ألمانيا. ولم يوضح أحد لماذا لم يتمّ تأهيل المستشفيات والمراكز في المناطق بالشكل المناسب؟
وللتذكير، كان هناك همس في الأيام الأولى لـ»الكورونا» في لبنان، عن أنّ الطاقم السياسي الذي نهبَ البلد يريد الاستفادة من بعض المساعدات الآتية على نيّة «كورونا»، سواء كانت عينيةٍ أو بشكل دولارات طازجة، أو على الأقل تسخيرها في استخدامات أخرى.
ولكن، لم يستطع أحد أن يثبت شيئاً من هذا القبيل. وعندما نجحت الحكومة في القضاء على الموجة الأولى من الوباء، أُقفِل الباب على هذا الهمس «الخبيث» وانتشى الجميع بالسلامة، واكتفوا بشكر الحكومة على إنقاذهم من المرض. و»بالشكر تدوم النِعَم» كما يُقال.
وانطلاقاً إلى السؤال حول ما إذا كانت أموال المساعدات تستخدم حصراً لـ»الكورونا»، يَستطرد بعض المتابعين «الخبثاء» ليطرَحوا سؤالاً آخر: إذا كانت دولارات «الكورونا»، التي وصلت خلال الموجة الأولى، قد استُخدِمت في أشكالٍ وأماكن أخرى، فهل يمكن أن يكون المستفيدون قد تغاضوا، بدرجة معينة، عن عودة الوباء لتبرير استجلاب مساعدات جديدة، يتمّ استخدامها في أماكن أخرى مجدّداً؟
ويضيف المتابعون: هل لهذا السبب تراخى بعض المعنيين في التعاطي مع الوباء على مدى أشهرٍ مضت، على رغم أنّ أرقام الإصابات كانت تتنامى سريعاً، وعلى رغم أنّ الخبراء كانوا يحذّرون من الوصول إلى الأسوأ؟
كان واضحاً ومعلناً أنّ أهل السلطة يريدون فتح البلد والمطار خلال الصيف، لاستقطاب دولارات بعض المغتربين والسياح وتحريك الاقتصاد. ولكن، هل كان بعضهم يفضّل التراخي في تدابير الوقاية؟ وهل التناقض الحاصل بين أركان الحكومة وخلافاتهم على تحديد الاستثناءات يترجم رغبات متفاوتة في التراخي؟
وفي الأيام الأخيرة، وعلى رغم بلوغ الإصابات أعداداً «تدعو إلى الهلع»، تمّ اعتماد روزنامة إقفال هزيلة ومستهجنة: إقفال من 30 تموز حتى 3 آب، ثم فتح، ثم إقفال من 6 آب حتى 10 منه.
ويسأل هؤلاء عن السرّ في حصر الإقفال بالأيام الأربعة الأخيرة، أي من يوم أمس إلى الإثنين. وهل هو لضبط «الكورونا» أم هو من باب الاحتياط أيضاً، لضبط مناخات الحكم الذي كان سيصدر اليوم عن المحكمة الدولية في قضية 14 شباط 2005؟
ولأنّ كثيرين من أركان طاقم السياسة والمال استفادوا من الملفات والمشاريع، منذ عشرات السنين، هل مستغرب أن يكون البعض مستفيداً اليوم من «الكورونا»؟ واستطراداً، كيف للناس أن يطمئنُّوا إلى أنّ هؤلاء سيُظهرون الحقائق في كارثة المرفأ؟
علاقة الطاقم السياسي بالفساد تذكّر بقصةٍ لجبران خليل جبران: الخوري سمعان يلتقي الشيطان جريحاً. يرفض مساعدته. لكن الشيطان يُقنعه: لولاي لما كنتَ أنتَ ولا كانت ثروتُك أنتَ وأفراد العائلة!
سيعود ماكرون في أول أيلول. ومن غباء أهل السلطة أن يكابروا ويستهينوا بتحذيرات «الفرنسي الناعم الأنيق». إنّها مسألة أيام أو أسابيع قليلة. فليتذكَّروا.