لم أكن أتصوّر يوماً بأنني سأشاهد بيروت بالصورة التي رأيتها فيها بعد انفجار مرفأ بيروت.
تلك المدينة الجميلة، بالرغم من كل مشاكلها، أضحت ركاماً، ولكن صورتها الجميلة بقيت مطبوعة في أذهان المواطنين وذكرياتهم، فهبّوا محاولين أن يساعدوا لاستعادة بعض جماليات هذه الصورة، بالرغم من قلّة إمكاناتهم، ومُدركين أنّ العودة إلى ما كانت عليه بيروت صعب جداً، في ظلّ أزمة مالية واقتصادية غير مسبوقة، وانعدام ثقة من قبل المجتمع الدولي بالسلطة الحاكمة على كلّ المستويات.
لقد أظهرت تداعيات انفجار المرفأ أنّ الشعب بالفعل في وادٍ، والسلطة في وادٍ آخر، حتّى أنّ أيّ مسؤول في الدولة لم يتجرّأ على تفقّد الأحياء السكنية المُدمّرة، والسؤال عن أهلها وأحوالهم. لم يملك أي مسؤول الجرأة للنزول إلى الشارع والتحدّث للناس والإستماع إلى صرخات غضبهم. فالمسؤولون يُدركون أنّ الناس تكرههم ولا تصدّقهم، ولا تثق بهم ولا تُريدهم، ففضّلوا تفقّد الحجر في المرفأ على أن يتفقّدوا البشر في الجمّيزة ومار مخايل والأشرفية وغيرها، حتى أنّهم لم يتجرّأوا على تفقّد مستشفى وجرحى، أو التعزية بشهيد سقط، لأنّهم يعرفون جيداً أنّ الناس لن تُرحّب بهم، لن تستقبلهم بالأحضان، لن تهتف بحياتهم، والأهمّ أنهم ليسوا موضع ثقة بأنّهم سيُخرجون البلد من المصيبة التي هو فيها.
لقد كان المسؤولون اللبنانيون يحسدون الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كيف استقبلته الناس في الجمّيزة، وكيف رأوا فيه رمزاً لخلاص البلد من هذه الطبقة الحاكمة، وكيف ناشدوه أن ينبذ هذه السلطة، وأن يُساهم مع اللبنانيين في تغيير واقعهم. ولقد كان الرئيس الفرنسي يُدرك هذا الواقع، وشعر به مباشرة من خلال أصوات المواطنين وصرخاتهم، وأبرزها أن لا تعطوا أموالاً لهذه السلطة لأنّها ستسرقها.
في هذا البلد، تؤكّد الأحداث المتتالية أنهم “بيقتلوا القتيل وبيمشوا بجنازتو” و”حاميها حراميها”. هكذا كانوا، وهكذا هم اليوم، وهكذا يريدون أن يستمرّوا. فالسلطة العاجزة لن تستطيع أن تُثبت نفسها من خلال حدث جلل، بعدما فشلت في إدارة أحداث وأزمات أقلّ خطورة، غير مُدركة أنّ المشكلة هي أبداً ودائماً في عدم وجود دولة تحمي أبناءها وتُعاقب المجرم وتُحاسب الفاسد، ولا تُدمّر البلاد وتُرهق العِباد من أجل منصب أو مصلحة في نفس يعقوب، ويعقوب هذا يعرفه ماكرون.