إن توقفت المراجع المالية والنقدية التي تواكب سير المفاوضات مع صندوق النقد، امام طروحات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في لقاءاته مع المسؤولين اللبنايين، تدرك اكثر من غيرها انّه حمل اليهم في تحذيراته ونصائحه، معظم مطالب صندوق النقد، التي فشل لبنان في مقاربتها او تطبيق اي منها، ليُقال انّ هناك خرقاً ما فيها. ولذلك، هل سيدفع بها الى الامام أم يزيدها تجميداً؟
اياً كانت ردّات الفعل التي سجّلها اللبنانيون على مستوياتهم المختلفة إزاء ما أدلى به ماكرون في جولته الميدانية على المنطقة المنكوبة عند ما تبقّى من منشآت مرفأ بيروت، وما بين المواطنين في الشوارع المدمّرة، كما في لقاءاته الرسمية والحزبية، فإنّ ما قرأه المشاركون في المفاوضات الجارية مع وفدي صندوق النقد الدولي ومؤسسة «لازارد»، لم ولن يقرأه الآخرون، لا في الشكل ولا في المضمون. وخصوصاً انّه لامس، في مواقفه والإنتقادات والنصائح التي وجّهها، الملفات المتعددة التي تدور حولها المفاوضات المجمّدة مع الصندوق، وتلك المتعثرة مع «لازارد»، من اجل تجاوز الأزمة النقدية والاقتصادية في البلاد.
وعليه، وبمعزل عمّا يمكن ان تقود اليه القراءات المختلفة لمواقف ماكرون، فإنّ من الثابت انّ اركان السلطة، الذين رحّبوا بالزيارة عند الاعلان عنها، راحوا بعيداً قي توقعاتهم الإيجابية لها، قبل ان يُفاجأوا بما يعاكسها. فما سمعوه قبل اللقاء من مواقف، وضعتهم في موقف حرج في انتظار اللقاء المباشر الذي شهده قصر بعبدا، ولم يكن بعيداً عمّا سبقه من مواقف، ولو انّها جاءت بلغة ديبلوماسية هادئة. فالتمييز ظهر واضحاً في تأكيدات الرئيس الضيف وحديثه عن تجاوب العالم مع حاجات لبنان في أزمته الانسانية، وهي لا ترتبط بتلك التي تحتاجها السلطة لتجاوز الأزمة السياسية والحكومية والاقتصادية والنقدية. وهو ما ظهر واضحاً في المواقع والمراكز الرسمية، التي كانت تراقب ما شهدته الجولة الميدانية للرئيس الضيف في مرفأ بيروت وما بين المواطنين في شارع غورو والجميزة ومار مخايل، قبل اللقاءات الرسمية. ولم يعد سراً الحديث عن حجم الإحباط الذي اصيبوا به.
وعليه، وتأكيداً لما سبق الإشارة اليه، فإنّ القراءة الديبلوماسية المتأنية التي أُجريت بعد ساعات قليلة على انتهاء «الزيارة ـ الغارة» التي قام بها الضيف الفرنسي الاستثنائي، قالت بوضوح، انّ الغاية من زيارة الرئيس ماكرون لا تتناسب وحجم ما تطالب به السلطة. فما اراده من رسائل سريعة شاء ان يوجّهها في أكثر من اتجاه لبناني داخلي واقليمي ودولي، صبّت في اتجاهات متناقضة مع رغباتهم. فهو عن قصد، كشف بجولته السريعة، والتي اختيرت مواقعها بدقة متناهية، انّه اراد اجراء «معاينة دولية» لما حصل، وليست فرنسية فحسب. فهو اراد ان ينقل الى حكومات وشعوب العالم عبر المحطات الفضائية التي واكبته، نقل صورة واضحة عن حجم النكبة التي اصيب بها لبنان وعاصمته بيروت نتيجة الإنفجار الغامض، وما قادت اليه من ردّات الفعل اللبنانية التي واكبت وجوده في ما بينهم. فليس من السهل استيعاب إغفال ماكرون ومرافقيه كل الاحتياطات الامنية بناءً لرغبته الشخصية، وكما ارادها بوضوح، ومن دون اي اجراءات صحية تواكب تلك التي اعتُمدت منذ ظهور جائحة «كورونا» في العالم، لتعميمها على المجتمع الدولي، ومعها ردّات فعل اللبنانيين المنكوبين الفورية والصادقة غير المبرمجة، قبل ان يلتقي اياً من المسؤولين الرسميين والحزبيين.
وعلى هذه الخلفيات، رصدت المراجع الديبلوماسية ومعها مرجعيات عدة، توجّس المسؤولين اللبنانيين من تصريحات ماكرون وما رمى اليه من رسائل، سبقت لقاء القمة بين الرئيسين اللبناني والفرنسي، وتلك الموسعة في حضور رئيسي مجلس النواب والحكومة، وخصوصاً انّ ماكرون قصد في مؤتمره الصحافي الغاء كل المحاذير التي حدّدتها السفارة الفرنسية لحصر الأسئلة بسؤالين او ثلاثة، فترك الامر الى ان «نشفت» اسئلة الصحافيين، وهو بذلك كشف عن كل ما قاله في اللقاءات المقفلة، سواء الرسمية منها كما الحزبية، ليؤكّد انه لا يحمل اسراراً ولا تفاهمات عميقة، فالرسالة كانت واضحة ولا تحتمل اي تأويل.
وبعيداً من ردّات الفعل السياسية والديبلوماسية، قرأت المراجع النقدية والمالية، التي تخوض المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ومؤسسة «لازارد» المجمّدة منها والمتعثرة، مواقف ماكرون على انّها ترجمة لمطالب المؤسسات الدولية وتلك المانحة، ولم يضف اليها سوى ما نتج من النكبة الحديثة وتداعياتها والشق المتصل بمواجهة نتائحها الكارثية.
وتأكيداً لهذه القراءة، تستذكر هذه المراجع بعضاً من الشروط التي كان صندوق النقد قد توصل اليها، لفتح الباب امام موافقته واعطائه الإذن لتفتح ابواب الدول والمؤسسات المانحة للبنان، وهي على الشكل الآتي:
– توحيد ارقام الخسائر وطريقة توزيعها وتحرير سعر صرف الليرة وتركه للسوق ان يحدّده وفق نظرية العرض والطلب.
– تعزيز انتاج الطاقة الكهربائية وتعديل اسعارها بما يتلاءم والكلفة الحقيقية.
– تعيين الهيئات الناظمة في قطاعي الطاقة والاتصالات، واطلاق عملية انماء شاملة لوقف الخسائر ومواجهة الفساد في القطاعين، توصلاً الى وقف التلاعب بإيراداتهما وتبذيرها.
– التوصل الى قانون القضاء المستقل وتأمين الحوكمة الرشيدة لضمان الإستثمارات.
– البت بقانون اصول عقد النفقات ومصاريف الدولة، واعتماد سياسة جديدة للرواتب والاجور وقانون العمل، واعادة النظر في تعويضات نهاية الخدمة وقانون الضمان الاجتماعي وتقديماته وضبطها، وتوحيد التقديمات الاجتماعية عبر الصناديق الرسمية الضامنة.
– اعادة النظر في نظام الضرائب لتكون اكثر انصافاً، والتخفيف عن كاهل المواطنين من ذوي الدخل المتوسط والمحدود، وفق برنامج وعقد اجتماعي جديد.
– ضبط المرافئ والمرافق العامة وضبط الرسوم الجمركية ومواجهة التهرّب والتهريب الضريبي.
– استكمال الاصلاحات البنيوية والمطلوبة في الدولة والمؤسسات، وتطبيق قانون الوصول الى المعلومات والشفافية.
وامام هذه اللائحة من الاصلاحات الهيكلية والبنيوية التي اشار اليها ماكرون اكثر من مرة، يبدو واضحاً انّ لبنان، الذي كان عاجزاً عن تلبية مطالبه قبل النكبة، فكيف سيقاربها من بعدها؟ ولذلك سيكون من المستحيل ان ينجح اللبنانيون في فك اي عقدة من هذه العقد، قبل عودته الى بيروت في الأول من ايلول المقبل، وهو ما سيؤدي حتماً الى اعتبار انّ الزيارة لن تدفع في اتجاه المفاوضات مع صندوق النقد ولا مع مؤسسة «لازارد»، لا بل فإنّها ستعقّدها. وعليه، فإنّ على المسؤولين الاستعداد لحفلة «بهدلة ثانية»، وهو ما يزرع الخوف من مستقبل الوضع، بعدما أضافت النكبة كثيراً من المآسي على لائحة هواجس ومخاوف اللبنانيين مما هو آتٍ، توصلاً لتجاوز هذه المرحلة الصعبة بأثمانها الغالية على جميع اللبنانيين.