Site icon IMLebanon

ماكرون حرص على تظهير تمايز الرؤية الفرنسية للبنان عن المقاربة الدولية

العقد السياسي الجديد تغيير جذري في النظام عماده الدولة العلمانية

شمل الحزم الذي أظهره إيمانويل ماكرون أمام النخبة السياسية التي تحلّقت حوله في قصر الصنوبر، الجميع، موالاة ومعارضة، فأتى على شاكلة محاسبة فرنسية رئاسية لكل الطبقة التي حكمت لبنان على إمتداد الثلاثين عاما الفائتة، خلافا لما حاول بعض تلك النخبة تظهيره إثر اللقاء، مغالاةً وتصنعاً وتكبّراً وتزويراً. هي الطبقة الحاكمة نفسها التي ورثت تسلّط ميليشيات الحرب، وأمعنت تنكيلا ونهبا وسرقة وإفسادا في الدولة ومؤسساتها وماليتها وإقتصادها وناسها!

كان واضحا أن زيارة ماكرون أتت من خارج السياق الذي أرادته القوى السياسية، وتحديدا تلك المعارضة التي شارك مترئسوها في الحوار بتمتمات متقطعة وأفكار غير مترابطة، ما خلا المطلب الثلاثي المشترك: حكومة حيادية وانتخابات نيابية مبكرة وتحقيق دولي في نكبة بيروت.

بدا واضحا حزم ماكرون في مقاربته المعضلة اللبنانية وجلجلة اللبنانيين مع سياسييهم، فيما توزّع المتحاورون بين:

أ- من استعاد الانقسام الذي يرهق لبنان منذ العام 2005 والذي خبت ناره في الأعوام الثلاثة الأخيرة من غير أن تنطفئ، وهو ما يؤشر الى تجدد المحاولة الخارجية لإعادة تسعير الانقسام والتباعد بين اللبنانيين، من خلال طرح عناوين إشكالية نبّه الرئيس الفرنسي الى ضرورة الابتعاد عنها، ناصحا بعدم الالتفات إلا الى ما يخدم اللبنانيين من إصلاحات ومكافحة للفساد.

ب – ومن شارك بخفر وتشتت عكسا خفّة سياسية فاجأت ماكرون، ولم يكتمها.

ج – وقلّة قليلة تحضّرت للقاء بعناية وإحترافية، بما عكس رغبة في احترام عقل الرئيس الفرنسي، وفي الوقت نفسه إعطاء اللقاء الحواري حقّه كاملا من خلال وضع خريطة طريق سياسية وإقتصادية واضحة المعالم عن الواقع وسبل الخروج منه، بلا تملّص من مسؤولية أو لعب على كلام وعلى حقائق يدركها ماكرون بقدر ضيوفه وربما أكثر.

لم يستثن الرجل من المحاسبة أحدا من المتحلقين حول الطاولة الدائرية في قصر الصنوبر، تماما كما لم يسمح لأحد بإلقاء اللوم على غيره بما يخرج النقاش من سياقه المُراد، خلافا لما اعتاد عليه من غوغائية وتملّص من المسؤولية، معظم الطبقة السياسية بفرعيها الحاكم والخارج حديثا من سلطة الطائف. لكن ماكرون، وهنا واسطة العقد، أظهر تمايزا عن السياق الدولي الذي يحكم راهنا النظرة الى لبنان. ويكفي في هذا الإطار حرصه على دعوة كل المكوّنات الى الحوار، وتحديدا حزب الله وهو المدرج في لوائح الإرهاب الأميركية والألمانية والبريطانية والعربية.

أنتج تغريد ماكرون خارج سياق المقاربة الدولية للمسألة اللبنانية، غربة سياسية خاضها بمرارة ممثلو المعارضة الخارجة حديثا من نعيم الحكم. ولم تنفع مكابرة هؤلاء، أو بعضهم، في حجب الخيبة التي أصابتهم جراء إغفال الرئيس الفرنسي معظم ما أتوا به الى حوار قصر الصنوبر من إنقلاب داخلي وتدويل طمحوا ان تساعدهم باريس في تحقيقهما. نصح الرئيس الفرنسي هؤلاء بأن «إهتموا بالإصلاحات المتأخرة أعواما في القطاعات الحيوية وبالأمور الحياتية» اليومية للبنانيين بدل البحث في شؤون لا تثمنهم ولا تغنيهم عن جوع. قال لهم بصريح العبارة إن الوقت ليس لملهاة الحديث عن حكومة حيادية بإشكالياتها السياسية الكثيرة، ولا لترف البحث في إجراء انتخابات نيابية مبكرة «ستأتي بالطبقة نفسها» المتمثلة بالمتحلقين حوله، ولا حتى للحديث في الجيوبوليتيك والكبائر الاستراتيجية. منَح الحكومة مهلة للاستجابة الى الإصلاحات الملحة، وهي ما يجمع عليها المجتمع الدولي، وفي الوقت نفسه تحدث عن أهمية حكومة وحدة وطنية، بما يوحي أن الإصلاحات تتقدّم راهنا على حكومة الوحدة، وأن المباشرة بتحقيق تلك الإصلاحات أو طلائعها الأكثر إلحاحا، قبل زيارته المقبلة في الأول من أيلول، من شأنها أن تقوّي الموقف الفرنسي الراغب في حشد المساعدة الدولية من خلال المؤتمر الدولي للدعم، وإلا فإنه سيكون المبادر في اتجاه مختلف كليا، في موازاة تزخيم البحث في العقد السياسي الجديد الذي تحدث عنه من دون كثير استفاضة وشرح.

بات واضحا أن باريس قررت قيادة جهد دولي لمساعدة إنسانية للبنان عبر المؤتمر الموعود، لكن الأهم رغبتها في إحداث تغيير سياسي جذري في نظام باتت تراه بائدا، غير قابل للإنعاش. ولا شك أن ثمة من محاوري ماكرون من إستشرف هذه الرغبة قبل حضوره إلى بيروت، وواكبها مسبقا بخريطة طريق تُحقق هذا التغيير المنشود، مدخلها الأول والأساس الدولة العلمانية التي ولجتها الجمهورية الفرنسية قبل ما يربو على 200 عام، بقيمها الماسية: حرية، مساواة، أخوة!