من المفترض أن يزور الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لبنان في بداية شهر أيلول المقبل، في زيارة هي الثانية له في غضون شهر واحد.
لكنّ الزيارة، التي ما تزال قائمة من حيث المبدأ، تشهد تضارباً في وجهات النظر حيالها بين متحفّظ على حصولها اذا لم تقترن على الاقل بتقدّم لبناني داخلي لناحية تسمية الرئيس المكلف تشكيل الحكومة العتيدة، وبين مؤيّد لحصولها وفصلها عن التعقيدات اللبنانية الداخلية، لأنّ التطورات الاقليمية هي الأخطر خصوصاً في ما يتعلق بالصراع الدائر مع تركيا حول النفوذ والسيطرة على شرق البحر الابيض المتوسط حيث الثروة الغازية. ويكتسب لبنان أهمية في اطار التنافس الحاصل لاكتساب النفوذ وتَزايد المنافسة.
أضف الى ذلك انّ التنوع الطائفي والمذهبي والسياسي في لبنان والصراع على المصالح يجعله مكاناً مثالياً للصراع بالوكالة عن القوى الخارجية.
فإثر انفجار 4 آب المأساوي، والذي دمّر جزءاً من العاصمة بيروت، شهد لبنان تدفق العديد من الوفود الاجنبية. صحيح أنّ هول المأساة ولّد تعاطفاً دولياً واسعاً، إلّا أنّ في تدفق الوفود جانباً له علاقة بالمصالح الدولية ايضاً.
الرئيس الفرنسي أوّل الواصلين خطفَ الأضواء من دون أدنى شك، خصوصاً أنّ زيارته تضمنت لقاء مع الناس المنكوبين وسط الشارع المدمّر وحيث أطلق مواقف نارية، إضافة الى لقائه برئيس كتلة «حزب الله» النيابية الى جانب القوى السياسية الاخرى. وهو ما أدى الى أول اعتراف لمسؤول غربي كبير بـ»حزب الله» وسط النزاع العنيف الحاصل بين واشنطن وطهران.
ومن أبرز الوفود التي تلته، الوفد التركي برئاسة وزير الخارجية مولود أوغلو الذي التقى، إضافة الى كبار المسؤولين، شخصيات في الطائفة السنية وأعلن استعداد تركيا للمساعدة في إعادة بناء مرفأ بيروت ومنح الجنسية التركية للبنانيين من أصل تركي. وليس سراً انّ تركيا تتنافس على النفوذ في سوريا والعراق، وخصوصاً ليبيا المفتاح البحري الاستراتيجي لجنوب أوروبا ولربط الساحل التركي بالساحل الليبي.
وكذلك جاءت زيارة الوفد المصري، حيث تسعى القاهرة الى تحطيم خط التواصل البحري بين تركيا وليبيا.
وفيما كان الموفد الاميركي ديفيد هيل يزور لبنان، حطّت طائرة وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف في جولة تزامنت مع جولة هيل وبما يشبه الرسالة بأنّ لإيران نفوذاً واسعاً وكبيراً في لبنان. وخلافاً للغته الديبلوماسية المَرنة، انتقد ظريف من بيروت ردّ الفعل الغربي على الانفجار، وأعلن عن إرسال مساعدات عاجلة الى لبنان عبر الجو. وحتى روسيا والصين بدتا مهتمتين بالوضع اللبناني.
في الواقع على لبنان ان يشعر بشيء من العزاء، لكن عليه ايضاً ألّا يطمئن كثيراً فهذه النعمة قد تتحوّل عند أول منعطف الى نقمة، وبالتالي الى صراع على الساحة اللبنانية، لا سيما انّ المسؤولين اللبنانيين لم يحسنوا حتى الساعة التقاط الفرصة بسرعة لإغلاق الساحة اللبنانية.
في الواقع، إنّ فرنسا التي تعتبر نفسها قوة عظمى لمنطقة البحر الابيض المتوسط، تبدو مستاءة جداً من الجرح الليبي الذي يؤذي أمنها ومصالحها، خصوصاً أنّ لفرنسا علاقات وروابط تاريخية ووثيقة مع العديد من الدول، والتي تنتمي الى منظومة الدول الفرنكوفونية. وهي أسّست على مدى التاريخ شبكات تعليمية واسعة وعلاقات ديبلوماسية قوية، خصوصاً بسبب امتلاكها مقعداً دائماً في مجلس الأمن إضافة الى قوات عسكرية وقواعد منتشرة في عدة بلدان في الشرق الاوسط وافريقيا.
في الواقع، تعتبر باريس أنّ جيشها هو الأقوى بين دول المنطقة والأكثر تطوراً وحداثة، ولذلك وجدت أنّ مصالحها تضررت بسبب التحدي التركي العسكري في ليبيا ونجاح روسيا في ملء الفراغ الاميركي في سوريا والتمدد البطيء للصين.
ومنذ عدة أشهر، نجح الرئيس الفرنسي في إرساء تفاهم مع نظيره الاميركي يقضي بإيلاء فرنسا دوراً أساسياً مساعداً انطلاقاً من لبنان، طالما أنّ مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية الاميركية ستكون مرحلة التفاوض وترتيب خارطة جيوسياسية جديدة في الشرق الاوسط.
ولذلك كان ماكرون أول الواصلين الى لبنان، في زيارة مثيرة حملت في طيّاتها العديد من الرسائل، منها الاعتراف بـ«حزب الله» ونبذ الطبقة السياسية الحاكمة والحديث عن صيغة سياسية جديدة. هذا في وقت كانت باريس ترسل طائرات حربية الى قبرص وسفناً حربية الى الشاطئ اللبناني.
لكنّ اعتراف ماكرون بـ«حزب الله» ورَد الأخير التحية بالمِثل، أظهر تقاطعاً فرنسياً – إيرانياً في مواجهة الطموح التركي.
ففي باريس، وبينما سجّل ماكرون نجاحاً في جمع 30 دولة بينهم الرئيس الاميركي في مؤتمر عبر الفيديو لدعم لبنان، سُجل غياب تركيا وروسيا اضافة الى ايران التي كان من المنطقي ان تغيب. ففرنسا تدعم منتدى غاز الشرق الاوسط الذي يضم مصر واليونان وقبرص واسرائيل وايطاليا في وجه تركيا.
وجاء لافتاً ما نشرته صحيفة «تايمز» البريطانية، والتي نقلت عن رئيس الموساد الاسرائيلي يوسي كوهين قوله انّ تركيا تشكل خطراً أكبر من ايران. وشرح كوهين قائلاً إنّ القوة الايرانية اصبحت هشّة، والتهديد الحقيقي بات قادماً من تركيا.
ولفتت الصحيفة الى أنّ هذه التصريحات تأتي من شخص يعتبر العقل المدبّر لسرقة أجزاء من الارشيف النووي الايراني وسط طهران.
وفي إشارة الى الحرب الصامتة الدائرة مع تركيا وسط التنافس المحموم الحاصل، لفتَ إنشاء تركيا غرفة عمليات «لدرع السلام» في ادلب. وتلا ذلك اغتيال لواء في الجيش الروسي، وإسقاط طائرة «درون» اميركية قيل إنه حصل عن طريق الخطأ.
في الواقع يمكن قراءة هاتين الحادثتين من خلال فرضيتين: الاولى انّ ما حصل هو إشارات تركية لموسكو وواشنطن بأنّ منطقة ادلب هي منطقة نفوذ تركية دائمة ولا يجب التدخّل فيها، أو إشارة امتعاض من الوضع في ليبيا وهو ما يَشغل بال تركيا الى الحد الأقصى في هذه المرحلة. ووفق كل ما سبق فإنّ على لبنان ألّا ينخدع بالتسابق الدولي نحوه وان كانت بدايته معسولة ومفيدة، فالواقع قد ينقلب في فترة ليست ببعيدة الى صراع بالواسطة على أرضه.
وبالتالي، فإنّ عدم اقتناص الفرصة وتخطي العقبات الداخلية الضيقة، قد يفوّت على لبنان فرصة ثمينة ويقلبها الى جحيم.
ولا شك انّ ركائز السلطة قد انهارت والتآكل بدأ يضرب نظام المحاصصة الذي كان قد وصل الى حدود الوقاحة. والفقر وصل الى 55 % والكارثة الاقتصادية تزداد سوءاً.
والدول الخارجية ستعمل من خلال المجموعات والطوائف والمذاهب وما يسمّى بالاحزاب، وليس من خلال بنيان الدولة او ما تبقى منه. ما يعني انّ الاهتمام الدولي قد يتحول لاحقاً ليصبح صراعاً مكشوفاً على ساحة جديدة في الشرق الاوسط. وبالتالي انزلاق لبنان نحو المجهول.
وخلال الايام المقبلة، تستعد واشنطن لإصدار أول لائحة عقوبات على رجال أعمال ومسؤولين لبنانيين في إطار قانون ماغنسكي. وتشمل اللائحة 20 شخصاً، وتتهمهم بهدر المال العام وتورطهم بالفساد وبانتهاك حقوق الانسان.
وبالتالي، سيجري تجميد أصول وممتلكات الاشخاص المتورطين، مع الاشارة الى الضغط الذي يمارسه الكونغرس لاعتماد استراتيجية مساعدات اميركية جديدة بدعم الشعب اللبناني، ولكن ليس عبر المؤسسات الرسمية.
خافيير سولانا، الامين العام السابق لحلف شمال الاطلسي والممثل السابق للاتحاد الاوروبي، كتبَ في «الفورين بوليسي» أنّ الطبقة الحاكمة في لبنان لن تقبل بالاصلاح السياسي بملء إرادتها وطيب خاطرها.
وأضاف أنّ لبنان بحاجة لبداية جديدة، وأنّ الأمل بالنهوض قد يكون كما حصل في تونس، وذلك بالسماح لأصوات الناس في الشارع بأن تصبح أقوى وحقيقية، وأن تتطوّر الأمور من الأسفل الى الاعلى.