التدقيق الجنائي يواجه تعقيدات قانونية وإدارية ومصيره مُرتبط بالوضع السياسي
في ضوء التردّي المتزايد سياسيًا وإقتصاديًا تتوالى محاولات الحكومة للخروج من الأزمة الحالية دون أن يكون هناك من تسجيل لأهداف في سلة الإنجازات. وأخر هذه المحاولات محاولة الحصول على إستثناءات لقانون قيصر الذي يُعرض كل كيان أو شخص يتعامل مع النظام في سوريا إلى عقوبات أميركية. لكن الردّ الأميركي جاء رافضًا إستثناء لبنان من هذا القانون على ما أوردت صحيفة «القبس».
وإذا كان هذا الأمر مُتوقّعًا في الشكل، إلا أنه كان هناك أمل أن يتمّ الأخذ بعين الإعتبار بعض الإستثناءات التي تطال قطاعات حيوية مثل إستجرار الكهرباء من سوريا. على كل وفي ظل هذا الرفض، هناك مخاوف جدّية من أن يكون هذا الرفض مؤشرا لمزيد من العقوبات التي تطال «شخصيات تدور في فلك حزب الله» بحسب المصادر خصوصًا أن الحكم النهائي في قضية إغتيال الرئيس رفيق الحريري سيصدر في السابع من آب القادم. الجدير ذكره أن البارحة شهدت المحكمة الخاصة جلسة تمهيدية تسبق القرار النهائي.
بالتزامن يظهر التعاطف الفرنسي مع المعاناة اللبنانية من خلال ما أعلنته قناة «العربية» بأن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في صدد إعلان خطّة شاملة لمساعدة لبنان. وبحسب مصادر جريدة «الديار» فإن هذه المساعدات ستقتصر على فتح إعتمادات لإستيراد المواد الغذائية والأدوية والمحروقات لم يعد لبنان قادرا على فتحها بسبب تخلّف الدولة اللبنانية وبسبب التضييق الأميركي. لكــن هذه المساعدات بحسب المصادر ستكون مشروطة بإجراء إصلاحات والسيطرة على الحدود البرية حتى لا يتمّ خرق قانون قيصر الأميركي مما يضع باريس بمواجهة مع واشنطن، وهو ما لا تريده فرنسا في ظل الظروف الإقتـصادية الصعبة التي تمرّ بها القارة العجوز. هذا الاهتمام الفرنسي بلبنان تُرجم بوصول وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان الذي سيبحث مع المسؤولين اللبنانيين في نقطتين أساسيتين: الحياد والإصلاحات. وبحسب المعلومات، سيُشدّد الموفد الفرنسي على أهمية أن يقوم اللبنانيون بمساعدة أنفسهم لكي يُساعدهم المُجتمع الدولي.
داخليًا يطّغى ملف التدقيق الجنائي على المشهد السياسي ما بين مؤيدّ ومعارض مؤكدًا للمرّة الألف الإنقسام الحاد الذي يعيشه اللبنانيون. هذا الإنقسام الذي زادت حدّته مع دعوة البطريرك الراعي إلى الحياد وردود الفعل العنيفة من قبل البعض، سيؤجّج حكمًا الإنقسامات على كل الملفات من دون إستثناء، وهذا ما تُظهره ردود الفعل على قرار المجلس الدستوري إبطال قانون آلية التعيين في الفئة الأولى في الإدارات العامة وفي المراكز العليا.
زيادة الأجور
كارثة جديدة تواجه لبنان من خلال ما تتحضّر للقيام به الحكومة اللبنانية عبر رفع الأجور! فقد أكدّت وزيرة الإعلام منال عبد الصمد أن الحكومة تعمل على «جعل موضوع زيادة الأجور أولوية» لديها. وبحسب ما صرّحت الوزيرة، الحكومة تنتظر «إستقرار سعر صرف الدولار الأميركي مُقابل الليرة اللبنانية رسميًا» وقد تمّ طرح هذا الموضوع خلال جلسات حكومية عدّة.
تحليل هذا التصريح يوصلنا إلى ثلاثة إحتمالات لا ثالث لهما:
أولا – هناك منهجية شعبوية دخلت في عمل الحكومة التي بدأت تُعطي الوعود غير المُمكن تحقيقها.
ثانيًا – تقييم سيىء من قبل الحكومة للوضع المالي والنقدي والإقتصادي.
ثالثًا – هناك عصى سحرية تمتلكها الحكومة ستغيّر الأوضاع بين ليلة وضُحاها!
في الواقع زيادة الأجور خصوصًا في القطاع العام ستكون كارثة على الليرة اللبنانية التي تعيش تحت ضغوطات سياسية، مالية ونقدية. وقبل كل شيء، نسيت الحكومة أن عجزها في الأشهر الستة الأولى من العام 2020 بلغ 5 تريليون ليرة لبنانية تمّ طبعها نظرًا إلى أن إيرادات الحكومة في الأشهر الأربعة الأولى من العام 2020 بنسبة 22% عن نفس الفترة من العام 2019 في حين أن النفقات بقيت على حالها! أضف إلى ذلك زيادة الضغط الأميركي على لبنان وإستمرار وباء كورونا الذي يُطيح بأمال إستعادة حياة طبيعية في لبنان.
ويبقى السؤال: كم هي الزيادة التي تُريد الحكومة إقرارها للأجور؟ كل ليرة سيتمّ طبعها ستُترجّم تضخّما في الإقتصاد وستزيد الأسعار معها وستقضي على قدرة مصرف لبنان واحتياطه المُتبقّي. لكن الأخطر في الأمر هو المخاوف من الدخول في الحلقة المُفرغة للتضخّم المُفرط التي لن يخرج منها لبنان لطالما بقي حيا!
لا توجد دولة في العالم إستطاعت الخروج من التضخّم المُفرط إلا المانيا بعد الحرب العالمية الثانية والسبب يعود إلى العملّ الجبّار الذي قامت به ألمانيا على الصعيد الصناعي والزراعي، ولكن أيضًا على صعيد القطاع العام. وإذ يُمكن رصد عشرات الدول التي فشلت بالقيام بإجراءات تُخرجها من هذه الحلقة المفرغة، نتساءل عن حال لبنان الذي يرضخ تحت تضييق أميركي لأسباب سياسية؟ إن هذه الخطّوة في حال إقرارها ستُشكّل ثالث ضربة (بعد التعثر وخفض سعر صرف الليرة) تُوجّهها الحكومة للإقتصاد اللبناني، وستكون بدون أدّنى شكّ الضربة القاضية للكيان اللبناني.
أمّا تعديل الأجور في القطاع الخاص عبر رفع الحدّ الأدنى، فسيُشكّل ضربة للشركات وسيتلف الوظائف الموجودة مما سيزيد البطالة والمعانة الإجتماعية.
النوايا الحسنة للحكومة لا يُمكن ترجمتها بإجراءات شعبوية سيكون لها ضرر كبير على الكيان اللبناني وبدل التوجّه إلى الأجور لتحسينها، يتوجّب تحفيز الإقتصاد ودعم الصناعة والزراعة لخلق وظائف جديدة وتحسين إيرادات الدوّلة والسيطرة على التضخم ومن ثمّ يُمكن التفكير في زيادة الأجور في القطاع العام والخاص. الجدير ذكره أن خلق وظيفة في القطاع الصناعي قادرة على خلق 5 وظائف في القطاعات الأخرى.
الدجاج الفاسد
أكبر عملية فساد ومحاولة قتل عن سابق إصرار وتصميم بحق الشعب اللبناني، تم كشفها إلى العلن أول من أمس مع ضبط مستودع للّحوم الفاسدة في زكريت. والأصعب في الأمر أن بيع هذه اللحوم الفاسدة مُستمرّ منذ العام 2016 مما يطرح العديد من الأسئلة: لماذا لم يتمّ الكشف عن هذا الأمر سابقًا؟ هل هناك من غطاء للقيمين على المستودع؟ هل ستتمّ لفلفة الموضوع كما هي العادة؟ هل هناك إنتقامات سياسية خلف هذه الحادثة؟
يحق للمواطن اللبناني أن يعرف لماذا لم يتمّ الكشف عن هذه الفضيحة سابقًا؟ إذا كانت السلطات لا تعلم بوجود هذا الفساد، فهذا بحدّ ذاته إدانة للسلطات الرقابية. فالأمر مُستمرّ منذ العام 2016 أي أنه في خلال 5 سنوات لم تتمّ زيارة هذا المستودع أو أن القيمين على المُستودع كانوا يعلمون مُسبقًا بقدوم فريق الرقابة. وإذا كانت السلطات تعلم، فهذا يُشكّل جريمة بحق الشعب اللبناني على المُستوى القانوني، والأخلاقي والديني والإنساني.
وهنا نرى أن الحكومة والقضاء أمام إمتحان جديد وهو ملاحقة المسؤولين عن هذا الفساد مهما علا شأنهم. فإذا فشلوا في هذه المُهمّة فهذا يعني أن كل شيء أصبح مسموحًا في لبنان. وإذا نجحوا في ملاحقة المسؤولين، فقد تكون الخطوة الأولى في إستعادة الثقة بالدولة. ويبقى الأهم هو وضع آلية رقابة لكيلا تتكرّر هذه الجريمة بحق الشعب اللبناني لأنه وحتى الساعة لا ضمانة على أن ما يصل إلى مائدة اللبناني من مواد غذائية هو صالح للإستهلاك.
التدقيق الجنائي
نزولا عند إصرار فخامة رئيس الجمهورية، أقرّت الحكومة في جلستها الأخيرة إسم الشركة التي ستُعنى بالتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان. هذه الشركة إتهمها البعض بأنها مُسيّسة نظرًا إلى أنها أصدرت تقريرا لصالح إحدى الشركات اللبنانية ينصّ على أن الشركة تحترم كل الإجراءات لمحاربة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. وإذ بالخزانة الأميركية تضع صاحب الشركة على لائحة العقوبات. أيضًا قال البعض الأخر أن أحد مديري الشركة أفلس شركته السابقة بعد فضيحة. في حين إمتنع الثنائي الشيعي عن التصويت في الجلسة بسبب الشكوك التي تحوم حول تواصل الشركة مع العدو الصهيوني.
على كل الأحوال، المُشكلة ليست على هذا الصعيد، بل تطال المعوقات الداخلية. فقانون السرية المصرفية وقانون النقد والتسليف يمنع على الشركة الإطلاع على حسابات المصرف المركزي. وبما أن هذه الشركة سيتمّ تكليفها من قبل قرار إتخذته الحكومة، وبما أن القانون أعلى من المراسيم والقرارات الحكومية، فهذا يعني أن الشركة لن تستطيع الدخول إلى حسابات مصرف لبنان.
أيضًا التدقيق الجنائي يفرض مساءلة موظّفي مصرف لبنان. هؤلاء يخضعون للسرية المصرفية، وبالتالي حتى إذا طلب منهم المسؤول المباشر عنهم إعطاء معلومات للشركة، هناك إستحالة تنفيذ هذا الطلب نظرًا إلى أنه يتعارض والقوانين.
على صعيد أخر، تواجه الشركة مُشكلة تتمثّل بالمهمّة الموكلة إليها. فمُهمّة «التدقيق في حسابات مصرف لبنان» قد تحتاج إلى سنوات نظرًا إلى حجم قاعدة البيانات المحاسبية للمصرف المركزي. والأجدى هو تحديد مُهمّة مُحدّدة يتمّ من خلالها تخفيض عدد الـ« accounting records » الواجب دراستها.
بعض التصاريح لمسؤولين سياسيين طالبوا بتوسيع عمل التدقيق هذا ليشمل حسابات الدولة اللبنانية خصوصًا أن تقرير ديوان المحاسبة عن 27 مليار دولار أميركي مجهولة المصير، يُشكّل مدّخلا عمليًا للدخول إلى كل الحسابات.
إن نجاح مُهمّة التدقيق الجنائي تحتاج إلى أربعة شروط أساسية: تحديد المهام، قانونية هذه المهام، شمولية هذه المهام، وقبول النتائج مهما كانت. هذه الشروط الأربعة تُشكّل قاعدة صلبة لملاحقة الفاسدين وسوقهم إلى العدالة. لكن هذه الشروط المثالية تواجهها حقيقة على الأرض وهي التجاذبات السياسية الداخلية والخارجية والتي قدّ تُشكّل عائقا أساسيا في طريق التدقيق الجنائي.
لازارد والخطّة الحكومية
في هذا الوقت، واصل فريق شركة لازارد الموكلة الدفاع عن مصالح الحكومة اللبنانية تجاه المقرضين، إجتماعاته مع المعنيين حيث عقد إجتماعات مع فريق وزارة المال وفريق من مصرف لبنان وفريق من جمعية المصارف. وتزامنت هذه الإجتماعات مع صدور مقال في «الفايننشل تايمز» تُهاجم فيه حاكم مصرف لبنان وتتهمّه بإخفاء خسائر وهو ما قد يُفسّر بالضغط على الجانب اللبناني المُتمثّل بمصرف لبنان والمصارف التجارية لقبول أرقام الحكومة. وما يدفعنا لقول هذا أن المقال لم يحو على أي معلومة جديدة بل هو إعادة نشر بصيغة مُختلفة لمعلومات كان الإعلام قد نشرها سابقًا. إذًا كيف لجريدة عالمية أن تُعيد نشر معلومات قديمة وفي هذا التوقيت إن لم يكن الهدف الضغط على الجانب اللبناني؟
على كل الأحوال، الهدف من عودة لازارد هو إعادة صياغة الخطة الحكومية وبالتحديد ثلاث نقاط أساسية: أولا تحديد أرقام الخسائر، ثانيًا توزيع الخسائر، وثالثًا وضع جدول زمني بالإصلاحات. لكن هذه المُهمّة لن تكون سهلة، فالإتفاق على أرقام الخسائر وتوزيعها (إن حصل) سيصطدم بالإصلاحات المطلوبة، وعلى رأسها الكابيتال كنترول وضبط التهريب وتعيين الهيئات الناظمة وملف الكهرباء وغيرها.