أظهر الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في المئوية الاولى لإعلان لبنان الكبير إهتماماً بالغاً وحرصاً شديداً على خصوصية العلاقة الفرنسية – اللبنانية، وأبرز المكانة المميزة والروابط المحورية بين البلدين على قاعدة ان لبنان مشبع بالثقافة الفرنكوفونية والقواسم المشتركة، وانه عمق استراتيجي لفرنسا في الشرق الاوسط لا يشبه أياً من الدول الاخرى في المنطقة. من الباب العريض كرّست فرنسا عودتها الى لبنان. تصرف ماكرون بعفوية محببة. عرف كيف ينتقي خطواته والاماكن التي يزورها. وبعناية مماثلة أو أشد، إختار مواقفه وقالها بلا تردد او مسايرة حتى وقع الكثيرون من محبي “الأم الحنون” في حيرة من أمرهم. على الباحث عن خلفيات زيارة ماكرون ان يراجع خطابه الاخير قبل اربعة ايام من زيارته امام منتدى الشرق الأوسط – البحر الأبيض المتوسط في لوغانو. حدد ماكرون اهداف بلاده المستقبلية في منطقة الشرق الاوسط. يحاول الرئيس الشاب ان يصحح مسار أسلافه معيداً بلاده الى خريطة التطورات في المنطقة. قالها ماكرون: “لا يصحّ أن يصير المتوسط مسرحاً للاشتباكات بين القوى العظمى (…) وأعتقدُ أنه يتعيّن علينا بناء آليات تعاون سياسي في هذا الصدد أيضاً، وهذا هو التحدي الأكبر للأشهر المقبلة، وأكلّفُ نفسي بمواجهته”، معتبراً أن “الأزمة اللبنانية هي بمثابة الاختبار للمجتمع الدولي، لأنها امتحان لقدرتنا على إخراج لبنان من ضغوط التوترات الكبرى بين كل القوى الإقليمية في المنطقة”.
اذاً يتعاطى ماكرون مع مهمته في لبنان على انها امتحان صعب لموقع بلاده على الساحة ويريد ان يعيد حضورها من البوابة اللبنانية تحديداً. هدد ماكرون وتوعد المسؤولين واشترط، وهم استقبلوه بالترحاب. ليس الخطأ في ما قاله وفعله وهو المرحب به في بلد ظمآن لمن يلتفت اليه، وانما في سوء مسؤولينا وتقاعسهم. وبالتزامن مع وجوده في قصر بعبدا اعلن الاليزيه عن موعد لعودة ماكرون الى لبنان مجدداً في كانون الاول المقبل. يتقن ماكرون لعبة المواعيد مع المسؤولين في لبنان. مواعيد محددة وبداخلها اجندة عمل يشترط على لبنان السير في تطبيقها تدريجياً مع برمجة زمنية لكل نقطة من النقاط، بما يشير الى وجود دفتر شروط مبرمج طرح مع الاعلان عن عودة ماكرون بعد ثلاثة اشهر. ولم ينته مشواره عند هذا الحد بل تعداه الى طاولة مستديرة التقى خلالها رؤساء الاحزاب اللبنانية وقد توسع التمثيل هذه المرة ليشمل الارمن وكأنه بذلك يحاول الاستفادة من اصوات الارمن في انتخابات بلاده المقبلة. من سلوكه وما قاله بدا ماكرون وكأنه منتدب للقيام بمهمته بدليل تهديده الطبقة السياسية بأن امامها ثلاثة اشهر للقيام بالمتوجب عليها والا فالعقوبات بانتظارها.
كل هذا يدل على ان الحضور الفرنسي المستجد في لبنان بشقه الظاهر هدفه الاستقرار ومصالح لبنان، وفي شقه غير الظاهر مصالح دول تتعلق بالترسيم والنفط والغاز واعادة الإعمار، الى الشق السياسي المتصل بالكباش الحاصل مع الاتراك الذين يسعون لتثبيت حضور بدأت معالمه تتمظهر في لبنان. وكان لافتاً التسابق بعيد انفجار المرفأ على الحضور بين الاتراك والفرنسيين.
ويتزامن حضور الفرنسيين في ذكرى مئوية لبنان مع حضور كثيف للأميركيين والاوروبيين. حيث بات متعذراً احصاء عدد الوفود الغربية ورؤساء حكومات الدول الوافدة الى لبنان. يحاول الفرنسي في معرض هذا الواقع ان يكون متقدماً بين متساوين. وليس معروفاً بعد اذا ما كان حضر ضمن تقاطع مصالح مع الاميركي او هو يتنافس معه لا سيما بعد نأي السفيرة الاميركية في لبنان دوروثي شيا ببلادها عن المهمة الفرنسية، من دون ان يدخل ضمنه مسألة أمن اسرائيل ولبنان.
حضر ماكرون ومعه ورقة عمل وزعها على رؤساء الاحزاب والرؤساء ممن التقاهم، تتضمن جملة مطالب اصلاحية مالية واقتصادية وسياسية هي بمثابة “برنامج عمل للحكومة الجديدة” وفق ما اطلق على تسميتها. تتحدث عن مهمات الحكومة الجديدة بدءاً من مواجهة “كوفيد 19” وحماية الناس، وإستدراج عروض لإعادة اعمار مرفأ بيروت بناء على تقريري البنك الدولي والاتحاد الاوروبي، واجراء تحقيق مستقل بمساندة دولية يتيح تبيان الحقيقة، والمساعدات الانسانية وحجمها والتي ستخضع لاشراف دولي، تبادل آراء المجتمع المدني حول برنامج الحكومة، إستئناف مفاوضات صندوق النقد والموافقة السريعة على الكابيتال كونترول على ان ينفذ خلال مهلة اربع سنوات، والتدقيق الجنائي خلال 15 يوماً، تنظيم قطاع الكهرباء، وانشاء هيئة ناظمة واستدراج عروض لبناء مصانع الغاز، التخلي عن سلعاتا ورفع التعرفة تدريجياً، تفعيل “سيدر” والتدقيق بحسابات مصرف لبنان خلال شهر، اقرار قانون استقلالية القضاء وتعيين الهيئة الناظمة لمكافحة الفساد، مشروع قانون اصلاح الشراء العام، وانتخابات نيابية وقانون انتخابات خلال سنة.
طروحات رأتها جهات سياسية قابلة للنقاش مثمنة الخطاب السياسي لماكرون الذي منح غطاء لرئيس الجمهورية ميشال عون وعهده بعد ان كانت تعلو الاصوات المطالبة بتقصير مدة ولايته، أعلن موقفاً متقدماً تجاه “حزب الله” واعتبره ممثلاً لشريحة من اللبنانيين، وان رئيس الجمهورية منتخب من برلمان انتخبه الشعب ما يعني تحذيراً مبطناً من اي محاولة للتغيير خارج الأطر الديموقراطية. شكلت مواقف ماكرون خريطة طريق للمرحلة المقبلة وأعطى مؤشراً الى ان تشكيل الحكومة سيكون بمثابة عملية انسيابية فتكون سرعة التأليف مشابهة لسرعة التكليف. وأبعد من ذلك فالحكومة المقبلة ستكون على الارجح حكومة تكنوقراط يغلب عليها حضور أصحاب الاختصاص وليس شخصيات سياسية. وتوقعت مصادر ان يستتبع ذلك بتغيير في حاكمية مصرف لبنان من ضمن النقاط المتفق عليها وان تبرز الى الواجهة شخصيات لبنانية اقتصادية صديقة للفرنسيين كان لهم حضورهم خلال زيارة ماكرون.
الفرنسيون عادوا الى لبنان. قالها الجنرال شارل ديغول منذ ستين عاماً، لا توجد دولة لديها اصدقاء، بل مصالح.