Site icon IMLebanon

“دروس” ماكرون في مــدرسة “الانكار والفشل”!

 

 

«عليك أن تكون من خارج السلطة والموالاة والمعارضة لتقييم الدروس والمهل لسلوك أولى أمتار خريطة الطريق الى الحل التي قدّمها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون للبنانيين». بهذه العبارات اختصر مرجع ديبلوماسي نتائج مهمة ماكرون، فقد كان في الامكان تجنّب «إهاناته» لو التزم المسؤولون الرسائل التي وجّهها موفده بيار دوكان ومن بعده وزير خارجيته جان ايف لودريان ونصائح دولية أسديَت في مناسبات مختلفة. فما الذي يدفع الى هذا الإعتقاد؟

 

يجزم المرجع الديبلوماسي الغربي انّ ماكرون لم يكن ينتظر ان يلتقي في الزيارتين اللتين قام بهما المسؤولين اللبنانيين من اهل السلطة والموالين والمعارضين ليفهم جوانب عدة من الأسباب التي أوصلت لبنان الى المأزق الكبير الذي بلغه، وما يمكن ان يفعله من اجل استيعاب خفايا ما يجري على الساحة اللبنانية وحجم التعقيدات التي أغرقت لبنان في بحور مختلفة من الازمات التي تناسلت وتجاوزت كل الخطوط الحمر.

 

ولم يكن منطقياً أن يفاجأ المراقبون باللهجة التي استخدمها ماكرون مع القيادات اللبنانية، ففي زيارتيه الأولى الى بيروت في 6 آب الماضي بعد يومين على انفجار المرفأ مُعايناً بالعين المجردة النكبة التي حلت باللبنانيين، وزيارته الثانية قبل يومين والتي استهلّها بـ»قمة ثقافية وعاطفية» مع السيدة فيروز قبل ان يلتقي أياً من المسؤولين، ما يكفي من رسائل. لقد اختار طريقة غير مألوفة في التعاطي مع القادة اللبنانيين بمعزل عن مواقعهم وولاءاتهم وانتماءاتهم وتوجهاتهم العلنية والمستترة، وهو ما أضاف الكثير المكمل لِما قصد أن يوجّهه من رسائل لا تتّسِع لها قاعات قصرَي بعبدا او الصنوبر والرابية كما في تلال أرز جاج.

 

ولذلك – يقول الديبلوماسيون – قصدَ ماكرون استخدام مختلف الوسائل المشروعة من مواقع إعلامية وسياسية وديبلوماسية فرنسية مختلفة لتوجيه الرسائل والتحذيرات السريعة والقاسية من اجل ان يسرع في إيصالها. وما على من يريد البحث عنها سوى العودة الى ما صدر عن مراجع معنية في قصري «الإليزيه» و»الكي دورسيه» من تسريبات خرقت المعهود في العلاقات بين الدول الى حدود ممارسة نوع من الوصاية التي استدرجها القادة اللبنانيون على سلطاتهم الدستورية، فوضعوا أنفسهم عن قصد او غير قصد في عمق دائرة الشبهة. وما نقلته صفحات من التحقيقات في الصحف الفرنسية وشاشات التلفزة الفرنسية العريقة التي يتابعها اللبنانيون كان كافياً للإضاءة على كثير ممّا لا يعرفه كثر من أبناء البلاد ولا يمكن التشكيك بصدقيتها. وهو ما ثَبت بالفعل عندما لم يكلّف أيّ مسؤول لبناني، كان مُستهدفاً بالمباشر او بالتورية في ما تعرّض له من اتهامات وملاحظات تجاوزت التهديدات، نفسه عَناء الرَدّ، كما لم يمتلك الجرأة الكافية لمثل هذه الخطوة. فكتمَ كثيراً مِمّن عَناهم رَدّة فِعله في قلوبهم وعقولهم محتفظين بصمت عميق قبل ان يضطروا الى الالتزام بها في اللقاءات التي عقدت في بعبدا كما في قصر الصنوبر جهاراً، والتسليم طوعاً بما قال، والإقرار ضمناً بصوابية توصيفه للوضع ولأداء المسؤولين من اعلى الهرم الى أدناه.

 

رب قائل ان المسؤولين اللبنانيين اعتادوا ان يسمعوا كثيراً قبل ان يتمردوا ويقومون بما يريدون، وبأقل مما هو مطلوب من واجباتهم تجاه الدولة وشعبها. ولكن هناك من يعترف هذه المرة انها مختلفة عما سبقها في توقيتها وشكلها ومضمونها، فقد بلغت الأزمة حدوداً هدّدت رقاب كثر منهم، وأضافت «نكبة المرفأ» بما عكسته من مظاهر الاهمال والفساد والافساد حدوداً لم تعد تحتمل لا محلياً ولا إقليمياً ولا دولياً وبكل الوجوه الانسانية والسياسية والأمنية. فالتهديد الفرنسي المباشر بالعقوبات الشخصية وخلافها، وحجب المساعدات، ووقف كل أشكال عروض المساعدة باتت في الميزان وعلى قاب قوسين او ادنى من ان تتحول امراً واقعاً، ولا ينقص سوى الاعلان عنها عندما يحين أوانها لإعطائها الطابع الذي تستحق كل منها. فماكرون لم يكن في زيارتيه ولا في مواقفه ينطق بما يعتقد ويتصوره شخصياً او باسم دولته فحسب، بل انه تصرّف وتحدث بكل ثقة أولاً باسم بلاده وباسم الاتحاد الأوروبي ومؤسساته المانحة، قبل أن يكشف عن جوانب متعددة من الاتصالات الدولية مع العواصم الكبرى المؤثرة في لبنان والمنطقة التي شجّعته على القيام بهذه «المغامرة» مع مجموعة الزعماء اللبنانيين المحليين، فهو يعرف ارتباطات وارتكابات كلّ منهم بالتفاصيل المملّة.

 

وتأكيداً لِما تقدّم، يستذكر اللبنانيون بكثير من الجدية مضمون مراسلات ومداخلات السفير بيار دوكان موفده المكلّف تنفيذ مقررات مؤتمر «سيدر» منذ عقد في 6 نيسان من العام 2018، ومعه مجموعة الخبراء المعاونين وما حملته من انتقادات تجاوزت حدود «اللياقة» أحياناً في التعاطي بين الدول والمؤسسات. ولم ينس اللبنانيون بعد كل ما رافق زيارة وزير خارجيته المحنّك جان ايف لودريان الى بيروت قبل انفجار المرفأ وما سَجّله من مواقف تنمّ عن حجم فهمهم لكل ما يجري في لبنان، وخصوصاً في السنوات الأخيرة، وحجم الموبقات المرتكبة على أكثر من مستوى، وهي موثّقة بكثير مما لا يخضع لأيّ نقاش او يتصوره أحد.

 

على هذه الخلفيات، يدعو المرجع الديبلوماسي اللبنانيين المسؤولين منهم قبل المعارضين الى ضرورة التزام ما تعهّدوا به امام ماكرون، فهي التزامات يظللها حديثه عن «الشرف» و»الصدقية» التي ظللت زيارته للبنان، عندما قال لا أملك ما أقدّمه اكثر من التزاماتي تجاه لبنان ومصلحته من دون ان يشكّل كلامه اي تدخل في الشؤون اللبنانية عند الحديث عن تشكيلة الحكومة او تركيبتها فما يعنيه النتائج. وانّ الشكليات ملك لهم من دون تجاهل حجم الضوابط التي أدت اليها مهمته في «خريطة الطريق الفرنسية» السياسية والدستورية والمالية الى الحل، والتي يعتقد كثر أنها صيغت في واشنطن او الرياض او في الامم المتحدة كما في مواقع عدة اجرت مقاربة للحل في لبنان.

 

ولذلك كله، سيحتسب لماكرون انه عبر حقولاً من الألغام التي زرعت في الطريق من باريس الى بيروت وفيها. ولم يستفزّ أحداً على الإطلاق فوزّع الارباح بطريقة غير مباشرة على كل من تعنيه الساحة اللبنانية وما عليها من قوى تمثّل جهات اجنبية غربية وفارسية وعربية. فأعطى ما لطهران والرياض وواشنطن في بيروت ما لها، وحفظ للأبعدين والأقربين ادوارهم بطريقة لن تكون مضمونة ما لم ينجح اللبنانيون في القيام بما هو مطلوب لعبور المرحلة بالخسائر التي تحققت حتى اليوم، ومنع وصول البلاد الى حيث لا رجعة اقتصادية وسياسية واجتماعية وربما أمنية.

 

وعليه، يختم المرجع الديبلوماسي بالقول: «لم يبقَ هناك من تجربة فظيعة لم يعبرها لبنان الى اليوم. وان كان اللبنانيون يخشون إبّان الازمات المالية والاقتصادية والسياسية المتتالية ما يمكن ان يفعل بهم السلاح النووي أو الكيماوي فقد جاءَهم «انفجار المرفأ» بما يشبههما، ولم يعد هناك من تجربة فريدة يعيشونها في «جمهورية الانكار والفشل» سوى ان يتعرّض لبنان لنيزك يستهدفهم من مكان ما.